ly

Translate

خديجة بنت خويلد


خديجة بنت خويلد



أبشر فوالله لايخزيك الله أبداً :
إنك لتصل الرحم
وتصدق الحديث
وتحمل الكل
وتقرى الضيف
وتعين على نوائب الحق

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
خير نساء العالمين :
مريم بنت عمران
وأسية بنت مزاحم
وخديجة بنت خويلد
وفاطمة بنت محمد
خديجة بنت خويلد
أول من أسلم وأول أم للمؤمنين
ـــــــ
هى خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى ابن قصى .. القرشية الأسدية أول أم للمؤمنين .. لأنها أول امرأة تزوجها النبى صلى الله عليه وسلم  .. ولم يتزوج عليها فى حياتها
أمها :
 فاطمة بنت زائدة بن الأصم واسمه جندب بن هدم بن رواحة ... بن لؤى
تزوجت خديجة قبل رسول الله مرتين فكانت فى الأولى عند أبى هالة : هند بن النباش .. ومن بعده عند عتيق بن عابد المخزومى
ثم تزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم 
وتوفيت قبل الهجرة بثلاث سنين .. وقيل انها توفيت بعد أبى طالب بثلاثة أيام . وكان موتها فى رمضان . ودفنت بالحجون ..
وقيل : كان عمرها خمساً وستين سنة.
شهرتها :
كانت تسمى سيدة نساء قريش
وتعرف وتلقب : بالطاهرة فى الجاهلية والاسلام
لم يتقدمها فى الاسلام أحد من الرجال ولا من النساء
كانت امرأة ذات شرف ومال .. واسعة الثراء لاتستبقى مالها كنزاً تحت يدها بدون استثمار .. ولم تكن ممن يتعاملون بالربا .. ولكنها كانت امرأة تاجرة ..
تستأجر الرجال فى مالها وتضاربهم إياه فتجعل لهم نصيباً فى الربح .
وكان أبو طالب أرفق أعمام الرسول به  .. وهو الذى كفله بعد جده عبد المطلب ..
وكان أبو طالب سيداً فى قومه وإن كان قليل المال
فقال يوماً لمحمد :
" يا ابن أخى ، أنا رجل لا مال لى ، وقد اشتد الزمان وألحت علينا سنين منكرة ، وليس لنا مال ولا تجارة ، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام ، وخديجة تبعث رجالاً يتَّجرون فى مالها ويصيبون منافع ، فلو جئتها لفضلتك على غيرك لما يبلغها عنك من أمانتك وطهارتك ، وإن كنت أكره الشام وأخاف عليك من يهود ..
وقد بلغنى أنها استأجرت غلاماً ببكرين ، ولسنا نرضى لك بمثل ما أعطته
فهل لك فى أن أكلمها .. ؟
قال محمد : ما أحببت ياعم.
وقيل أن خديجة لما بلغها من صدق محمد وأمانته ونبل أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج فى مال لها إلى الشام تاجراً ، تعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار مع غلام لها يسمى ميسرة ، فقبل وخرج فى مالها للمتاجرة فى الشام وخرج معه ميسرة ..
وهناك باع محمد ما معه واشترى ما أراد أن يشترى وعاد بتجارة رابحة أدخلت الرضا والسرور على قلب خديجة خاصة بعد ما سمعت من ميسرة من ثناء عليه ..
خديجة تخطبه لنفسها :
وليس عيباً على امرأة شريفة كريمة الخلق تلقب بالطاهرة فى الجاهلية والإسلام .. ليس عيباً عليها أن تتخذ الوسائل المشروعة لتحقيق رغباتها ...
ومثلها فى تعقلها وحكمتها وتجربتها السابقة ...
لم تكن لترغب فى الإقتران به عن نزوة عابرة .. ولكنها تأملت فيه الجانب الخلقى .... وسمعته الذائعة .. وثناء الناس عليه ..
وخاصة غلامها ميسرة الذى تثق به..
وقد رافقه فى رحلته إلى الشام ورفقة السفر تكشف عن السلوك الحقيقى للإنسان وعن طباعه .. وحسن تصرفه ..
كما أن التعامل بالبيع والشراء يُظهِر ما يخفى عن عيون الناس من صدق .. وأمانة .. وشرف فى التعامل .
ولعلها فكرت فى مدى تكافؤ هذا الزواج واحتمالات نجاحه من جوانبه المتعددة ...
فهى تكبره سناً .. هى فى الأربيعن وهو فى الخامسة والعشرين
- هى ردت سادة قريش وأثرياءها عن خطبتها
- هى : سبق لها الزواج من رجلين سابقين ارتحلا عنها "وتركا لها" ابنة من زوجها عتيق بن عائذ ...
وولدا يدعى (هند) من زوجها السابق هند بن زراره
- أما محمد فشاب لم يسبق له الزواج .. وهو من أشرف شرفاء قريش وإن لم يكن ذا مال .. وهذا لا يعيبه ولكنه أمين ذو سمعة حسنة قادر على البيع و الشراء والكسب لا يطمع فى أموالها .. وهذا وحده يكفى إذا وُجِدَ القبول لديه ..
لذا فقد جاء فى الطبقات الكبرى لابن سعد عن نفيسة بنت أمية قولها :
كانت خديجة ذات شرف ومال كثير وتجارة تبعث إلى الشام فيكون عيرها كعامة عير قريش ، وكانت تستأجر الرجال وتدفع المال مضاربة ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم  خمساً وعشرين سنة وليس له أسم بمكة إلا "الأمين" أرسلت إليه خديحة بنت خويلد تسأله الخروج إلى الشام فى تجارتها مع غلامها ميسرة وقالت:
أنا أعطيك ضعف ما أعطى قومك ..
ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم  .. وخرج إلى سوق بصرى فباع سلعته التى أخرج واشترى غيرها وقدم بها فربحت ضعف ما كانت تربح ، فأضعفت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم  ضعف ما سمَّت له ،
قالت نفيسة : فأرسلتنى إليه دسيساً أعرض عليه نكاحها فقبل ، وأرسلت إلى عمها " عمرو بن أسد بن عبد العزى ابن قصى "
فحضر ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم  فى عمومته فزوجه أحدهم
قيل أن الذى خطبها له هو عمه حمزة بن عبد المطلب ،
وقيل أنه أبا طالب هو الذى نهض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهو الذى خطب خطبة النكاح .
وكان مما قاله أبو طالب فى خطبة النكاح :
أما بعد إن محمداً ممن لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً وإن كان فى المال قل فإنما المال ظل زائل وعارية مسترجعة وله فى خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك .
ورد عليه عمر بن أسد رداً على قبوله بالخطبة وكان مما قاله :-
" هذا البضع لا يقرع أنفه "
وهذا مثل تضربه العرب للرجل الأصيل الشريف المنبت الذى لا يشوب نسبة شائبه إذا ما تقدم للزواج دليلاً على قبوله وعدم رده ..
فيقولون : "هذا الفحل لا يجدع أنفه "
هذا بخلاف البعير المهجن غير الأصيل الذى لا يُرغَبُ فى نسله فكان يقرع أنفه أى يضرب على أنفه لإبعاده عن الناقة التى يهم بتلقيحها ..
و الصداق وأولاده منها :
أصدقها رسول الله عشرة بكرة ..
وكانت أول إمرأة تزوجها .. ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت .
وولدت له كل أبنائه إلا إبراهيم ..
فولدت له القاسم .. وبه كان وما زال يكنى ..
فيقول الخطباء على المنابر إذا أرادوا التخاطب إليه ومناجاته : " يا أبا القاسم يا رسول الله "
والطاهر والطيب لقبانه " للقاسم" سُمِّى بالطاهر والطيب لأنه ولد بعد النبوة ، وأسمه الذى سمى به0 أول هو : عبد الله ..
ونميل إلى أن الطاهر والطيب لقبان لعبد الله وليس " للقاسم " .
فلو أن القاسم سمى أولاً بـ عبد الله .. فبعيد على الذهن أن يغيره الرسول إلى " القاسم "
وولدت له زينب ورقية وأم  كلثوم ثم فاطمة
قال ابن اسحق :
فأما القاسم ، والطيب ، والطاهر فهلكوا فى الجاهلية وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن معه
ــــــــــ
أما القول بأن القاسم هلك فى الجاهلية : فقد قيل فى سند الغريانى أن خديجة دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم  بعد موت القاسم ، وهى تبكى : فقالت :
يا رسول الله دَرَّتْ لُبَيْنَهُ القاسم فلو كان عاش حتى يستكمل رضاعته لهُوَّن علىّّ .
فقال : إن له مرضعاً فى الجنة تستكمل رضاعته
فقالت : لو أعلم ذلك لَهُوِّنَ عَلىّ
فقال : إن شئت أسمعتك صوته فى الجنة ،
فقالت : بل أصدق الله ورسوله .
وفى هذا دليل  على أن القاسم لم يهلك فى الجاهلية .
أما إبراهيم : فأمه مارية القبطية التى أهداها إليه المقوقس عظيم القبط فى مصر .
ــــــــــ
لا خلاف حول بنات الرسول صلى الله عليه وسلم  من خديجة ولكن الخلاف حول أولاده الذكور :-
- عن الزهرى قال : زعم بعض العلماء أنها ولدت له ولداً يسمى الطاهر
- وقال بعضهم : ما نعلمها ولدت له إلا القاسم وبناته الأربع
- وقال قتادة : ولدت له خديجة غلامين وأربع بنات : القاسم وبه كان يكنىّ، وعاش حتى مشى ، وعبد الله مات صغيراً .
وقال على بن عبد العزيز الجرجانى :- أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم  :
القاسم - وهو أكبر ولده ثم زينب
قال .. وقال الكلبى :
زينب والقاسم ، ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية ثم عبد الله - وكان له يقال : الطيب والطاهر . قال : وهذا هو الصحيح ، وغيره تخليط .
الوحى :
عن عائشة رضى الله عنها قالت :
أول ما بُدِىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم  من الوحى : الرؤيا الصادقة فى النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ..
ثم حبب إليه الخلاء .. فكان يأتى حراء فيتحنث فيه
- وهو التعبد - الليالى الطوال ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزوج بمثلها حتى فجأه الوحى وهو فى غار حراء فجاءه الملك فيه فقال : إقرأ ..
قال الرسول صلى الله عليه وسلم  ما أنا بقارئ .
قال الرسول : فآخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ
فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى فقال : اقرأ
فقلت : ما أنا بقارئ .
فغطنى الثالثة حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى فقال :-
إقرأ باسم ربك الذى خلق
خلق الإنسان من علق
إقرأ وربك الأكرم
الذى علم بالقلم
علم الإنسان مالم يعلم " .
فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال : " زملونى زملونى "
فزملوه حتى ذهب منه الروع
فقال : يا خديجة " مالى " ؟ . وأخبرها الخبر وقال :
" قد خشيت على نفسى "
فقالت له : كلا " أبشر " فوالله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل وتُقرى الضيف ، وتعين على نوائب الحق .
أرأيت وتأملت فى هذه الحكمة المتفجرة من قلب هذه المرأة الطاهرة وعلى الفور وبلا تردد .
هذه الحكمة التى جعلتها تقف بجوار زوجها تؤازره وتسانده فى أشد الأوقات خوفاً .. وفرقاً ..
أن يرى المرء حلماً فى المنام فيتحقق ما رآه فى اليقظة كفلق الصبح .. فهذا أمر لا يخيف الرائى فى  شئ .. بل إنه يطمئنه ويبشره بأنه يسير فى طريق الخير . كما أن التحدث بالأحلام لا يثير الضغينة والأحقاد على الرائى .. ولا يستدعى معاداته .
أما أن يرى محمد .. وهو منفرد بالغار من يواجهه ولا يعرف من أين جاء ولا كيف وصل إلى هذا المكان فيمسك به ويضمه ضماً شديداً إليه حتى بلغ منه الجهد ، ثم يقول له : اقرأ ... وكأنه يطلب منه شيئاً محالاً ..لأنه لا يعرف القراءة .. و لم يسبق له تعلمها .. فيجيبه بصراحته المعهودة "ما أنا بقارئ "
وكأن هذه الإجابة لا تقنع هذا الذى ظهر له فجأة ولا يعرف من أين جاء .. فيضمه مرة أخرى ويَغُطَّهُ حتى يبلغ منه التعب وللإرهاق والجهد مبلغه فيجيبه مرة أخرى " ما أنا بقارئ "
فيعاود معه هذا الغط المرهق للمرة الثانية .. فيجيبه مرة أخرى " ما أنا بقارئ "..
فيعاود معه هذا الغط المرهف للمرة الثالثة ..فيجيبه بنفس الاجابة التى ليس معه غيرها ..
فيقول له " اقرأ باسم ربك الذى خلق ..
إلى آخر ما قال له .. ثم يتركه .. ويختفى دون أن يعرف محمد إلى أين ذهب وكيف ذهب وما وسيلته فى الصعود إلى الغار .. أو .. أو .. إلخ
هذه الأشياء التى تملأ قلبه بالروع ..
هذه الصورة جديدة تماماً على محمد .. وعلى كل من يسمعها .. إنها بداية الوحى والنبوة والرسالة وكانت بداية مثيرة لا يستطيع أن يحيط بدقائقها وملابساتها وكان من الطبيعى أن يفزع ويفرق لهذا  الذى رآه بلا سابقة له أو لغيره من الناس المحيطين به .. وفى مكان منعزل بعيد عن صخب الحياة ..
فيمضى إلى خديجة ويقول : " زملونى زملونى "
وكأن الله عز وجل أراد لخديجة .. المرأة الحصينة العاقلة الحكيمة التى تكبره سناً أن ترافقه فى لحظات إيمانه الأولى ..لحظات نزول هذا القول المثير .. على لسان مخلوق لله مثير .. وفى مكان مثير .. ولا أحد مع رسول الله فى ذلك الوقت .
لقد أراد الله تعالى الكرامة لرسوله محمد وأراد الكرامة لزوجه التى تلقته بصدرها وكلماتها الحانية الصادقة … إن ما قالته خديجة فى تلك اللحظات الخالدة ينبئ عن علم وفقه ..
ولم يكن قط لمجرد المواساة فى حالة خوف وفزع .. لقد صدقت أن هذا الذى جاءه وحدث منه ما حدث ليس من قبيل ما يفعله الأشرار .. بل إنه أمر من الله تعالى .. فهى تقول له على الفور :
" أبشر فوالله لا يخزيك الله  أبداً "
لقد أصدرت هذا الحكم لصالحه .. ولم تكتف بذلك ولكنها امرأة فقيهة أعدها الله تعالى لهذا الموقف ..
فقدمت الأدلة والبراهين الساطعة على صحة حكمها
كما يقدم القاضى العادل الأدلة المقنعة على صحة حكمه :
الدليل الأول : إنك لتصل الرحم
الدليل الثانى : تصدق الحديث
الدليل الثالث : تحمل الكَّلَ
الدليل الرابع : تقرى الضيف
الدليل الخامس : تعين على نوائب الحق
يا الهى .. على فقه هذه السيدة الجليلة .. وحسن ما قالت .. وجمال ما عرضت ..
كيف يخزى الله من يحمل كل هذه الصفات ويطبقها فى حياته .. هذه مبادئ نطقت بها خديجة قبل أن ينزل بها قرآن .. وقبل أن يتحدث بها الرسول إلى أصحابه ..
هذه مبادئ أعده الله لها عملاً وسلوكاً يراها الناس فيه دون أن ينطق هو بها أو يتباهى بها ويتفاخر ويقول إننى أصل الرحم وأصدق الحديث .. وأحمل الضعيف وأكرم الضيف وأعينه على النوائب التى تصيب الناس ..
ولكنها مبادئ كان الناس يرونها فيه ورأتها خديجة عن قرب ولكن ما تتميز به خديجة أنها جعلتها سنداً للنبوة والرسالة وكانت محقة .. فقد اتسع قلبها للإيمان بها وبأنها من عند الله تعالى .. ولا تأتى من سواه ..
لقد كانت خديجة رضى الله عنها .. وبإلهام من الله تعالى ذات فراسة كبيرة ربما ترفعها إلى أسمى الدرجات .. بين أصحاب الفراسات من الرجال أو النساء على مدى التاريخ ..
فسعت بتوفيق الله إلى الزواج بهذا الشاب الذى يصغرها سناً وأقترنت به لتكون نعم الزوجة ونعم الصاحبة ونعم الرفيق ..
لقد آمنت به قبل أن  يؤمن به أحد ..
إن الله تعالى قدم لنا نماذج متعددة لزوجات الأنبياء ليس كلهن مؤمنات بأزواجهن ..
لو كانت الأمور تسير طبقاً لرؤيتنا البشرية .. لكان من الطبيعى والمنطقى أن تكون امرأة نوح وامرأة لوط من المؤمنات ..
ولكن الله تعالى يقدم لنا نماذج مختلفة طبقاً لما يراه هو ليثبت  لنا أنه صاحب الأمر كله .. وصاحب الفضل كله ..
وأنه قادر على أن يخرج الحى من الميت .. ويخرج الميت من الحى .. يخرج الكافر من المؤمن .. ويخرج المؤمن من الكافر .
إن نوح عليه السلام .. وهو من أولى العزم من الرسل .. لم يستطع أن يهدى أبنه ولا زوجته .. وكذلك نبى الله لوط وغيرهما من الأنبياء والرسل ..
وأعطانا الله جل وعز الصورة المقابلة فى امرأة فرعون ولكنه تعالى وافق بين محمد وخديجة كنموذج رفيع للإيمان تقف بجواره تؤازره وتخفف عنه فى أشد الحالات التى يحتاج فيها إلى المؤازرة والعون .
وظلت على ذلك حتى لاقت ربها راضية مرضية
مع ورقة بن نوفل ..
بعد أن خففت عنه وهَدَّأت من روعة .. وأعادت الطمأنينة إلى نفسه فانطلقت ومعها محمد حتى أتت به ورقة بن نوفل وكان إمرءاً تَنَصَرَ فى الجاهلية .. وكان يكتب الكتاب العبرانى وهو لغة بنى اسرائيل ، فيكتب من الأنجيل بالعبرانية .
ماشاء الله أن يكتب ، وكان شيخاً كبيراً قد عَمِىَ .
قالت خديجة لورقة :
يا ابن عم .. اسمع من ابن أخيك
فقال له ورقة :
ياابن أخى ماذا ترى ؟
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم  خبر مارأى
فقال له ورقة :
هذا الناموس() الذى نزل الله على موسى ..
ياليتنى فيها جذعاً() ..
ليتنى أكون حيا ، إذ يُخْرِجُكَ قومك
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  :
" أو مُخْرِجِى هم " ؟
قال : نعم ، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى ، وإن يدركنى يومك أنصرك نصراً مؤزراً
ثم لم ينشب() ورقة أن توفى ، وفتر الوحى .
ثم كان أول شئ نزل بعد فترة الوحى وبعد نزول : اقرأ باسم ربك الذى خلق
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال :
" بينما أنا أمشى إذ سمعت صوتاً من السماء
ينادينى .. فنظرت عن يمينى فلم أر شيئاً
ونظرت عن شمالى فلم أر شيئاً .. ونظرت أمامى
فلم أر شيئاً .. ونظرت خلفى فلم أر شيئاً
فرفعت رأسى فرأيت شيئاً ..
فإذا الملك الذى جاءنى بحراء ..
جالس على كرسى بين السماء والأرض
فَرُعبِتُ منه ..
فرجعت فقلت : زملونى .. زملونى ..
فزملونى
فأنزل الله تعالى :
" يا أيها المدثر ، قم فأنذر ، وربك فكبر ،
وثيابك فطهر ، والرجز فاهجر "
المدثر من 1-5
ــــــــــ
ومرة أخرى نجد الزوجة الحانية الرفيقة بزوجها المؤمنة بأنه كان على طريق النبوة يسير .
لقد أعملت ما وهبها الله من فراسة ومن ذكاء إيمانى صادق فقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم  بعد أن هدأت نفسه :
" يا ابن عم ، هل تستطيع أن تخبرنى بصاحبك  الذى يأتيك إذا جاءك ؟"
قال : نعم ..
فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم  عندها إذ جاءه جبريل ..
فقال لها :
" هذا جبريل قد جاءنى "
فقالت : أتراه الآن
قال : نعم
قالت : أجلس على شقى الأيسر
فجلس فقالت : هل تراه الآن ؟ .. قال : نعم
قالت : فاجلس على شقى الأيمن . فجلس
فقالت : هل تراه الآن ؟ ..قال : نعم
قالت : فتحول فاجلس فى حجرى ..
فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم  فجلس
فقالت : هل تراه ؟ قال : نعم
فتحسرت وألقت خمارها وقعدت حاسرة مكشوفة الرأس
فقالت : هل تراه ؟
قال : لا
قالت : " ما هذا شيطان .. إن هذا لملك يا ابن عم أثبت وأبشر "
ثم أمنت به وشهدت أن الذى جاء به الحق.
أليست هذه تجربة عملية قامت بها السيدة خديجة رضى الله عنها أثبتت كما يثبت العلماء فى معاملهم حقائق الأشياء.
لقد أثبتت بهذه التجربة أن الذى يجئ بالوحى إلى رسول الله إنما هو ملك كريم .. وليس بشيطان رجيم فلو كان شيطاناً لسره أن يبقى مهما كشفت من نفسها أما الملاك الكريم فقد استحيا وخجل أن يبقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهى حاسرة الرأس ورسول الله صلى الله عليه وسلم  يجلس فى حجرها .. فانصرف ..
وهكذا أراد الله عز وجل لخديجة أن تكون نعم الرفيق .. ونعم المعينة .. وأن تكون فريدة فى موقعها من رسول الله كأولى أمهات المؤمنين بين سائر الذين جاءوا من بعدها
الايمان يزيد وينقص إلا ..
وإذا كان الإسلام يزيد وينقص كما حَدَّثَ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم  فإن إيمان السيدة خديجة رضى الله عنها لم يكن مما يتناقص قط بل كان فى ازدياد مستمر كما قال الله عز وجل :
" والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم "
        من سورة محمد برقم 17
وكيف ينقص إيمانها وقد كانت تعاصر نزول الوحى ..
وكانت أول أُذُنٍ تتلقى كلام الله من فم زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم  فور تنزله على قلبه غضاً طرياً فيتأملانه معاً وتتحرك به جوارحهما فيكونان معاً أول المنفذين والمطبقين لما جاء به
كرمها الله تعالى وشرفها فجعل بيتها مهبطاً لوحيه ..
ولم يجعل لها من يشاركها من النساء فى لقب "أم المؤمنين" حتى وفاتها .. رفيعة القدر عزيزة الذكرى
وكانت هى الوحيدة التى لم يشملها قول الله تعالى :
" يا أيها النبى قل لأزواجك ، إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها ، فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً "                 الأحزاب /28
تأثير القرآن على بعض المشركين :
لقد كان للقرآن الكريم تأثيره البالغ على بعض المشركين من أشراف قريش..
قال عتبة بن ربيعة يوماً وهو جالس فى نادى قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم  جالس فى المسجد وحده :
يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ، ويَكُفُ عنا ؟
وذلك حين أسلم حمزة ، ورأوا أصحاب رسول الله يزيدون
فقالوا : بلى يا أبا الوليد ، قم إليه فكلمه ..
فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال :
يا ابن أخى . إنك منا حيث قد عملت من الشرف فى العشيرة والمكان فى النسب . وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكَفَّرتَ به مَنْ مضى من آبائهم
فاستمع منى أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم  :
" قل يا أبا الوليد ، اسمع "
قال : يا ابن أخى .. إن كنت .. إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً .. جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ..
وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا ، حتى لانقطع أمرا دونك
وإن كنت تريد به ملكاً .. ملكناك علينا .
وإن كان هذا الذى يأتيك رئياً (أى من الجن) تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ...
حتى إذا فرغ "عتبة" ورسول الله صلى الله عليه وسلم  يستمع منه قال :
أفرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم
قال : فاسمع منى .. قال : أفعل
فقال : " بسم الله الرحمن الرحيم
" حم تنزيل من الرحمن الرحيم
كتاب فصلت آياته قرآنا عربياً لقوم يعلمون
بشيراً ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لايسمعون
وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه .. "        فصلت
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم  فيها يقرؤها عليه ..
فلما سمعها منه عتبة أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليها يسمع منه ، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى السجدة منها فسجد ثم قال :
قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذلك
تأثر عتبة بالقرآن :
قام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض :
نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذى ذهب به فلما جلس إليهم قالوا :
ماوراءك يا أبا الوليد ؟
قال : ورائى أنى قد سمعت قوله ..
والله ما سمعت مثله قط ،
والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة
يا معشر قريش .. أطيعونى وأجعلوها بى ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذى سمعت منه نبأ عظيم ، فإن تصبه العرب فقد كُفُيتمُوه بغيركم ..
وإن يظهر على العرب فملكة ملككم ، وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به
قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه
قال : هذا رأيى فيه .. فاصنعوا ما بدا لكم 
تأثر أبى جهل وأبى سفيان والأخنس :
خرج أبو سفيان بن حرب وأبوجهل بن هشام والأخنس بن شريق ليلة ليستمعوا إلى محمد وهو فى بيته ، فأخذ كل منهم مجلساً يستمع فيه وكل منهم لا يعلم بمكان صاحبه.
وكان محمد يقوم الليل إلا قليلاً يرتل القرآن فى هدوء وسكينة بصوته النبوى المحمدى الخاشع الذى يأخذ بقلوب سامعيه .
فلما كان الفجر تفرق المستمعون وهم عائدون إلى منازلهم فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأضعف ذلك من أمركم ولنصر محمداً عليكم.
فلما كانت الليلة الثانية .. شعر كل واحد منهم فى مثل الموعد الذى ذهب فيه أمس كأن رجليه تحملانه رغم عنه ليقضى ليله حيث قضاه أمس وليتسمع إلى محمد وما يتلوه من قرآن .
وتلاقوا فى طريق العودة عند مطلع الفجر وتلاوموا مرة ثانية ولم يَحُلْ تلاومهم دون الذهاب فى الليلة الثالثة ..
وتلاقوا للمرة الثالثة فأدركوا ما بهم من ضعف فتعاهدوا ألا يعودوا إلى التسمع لما يتلوه محمد خوفاً من أن يظهر ضعفهم وهم سادة قريش أمام أتباعهم
والسؤال الذى يتبادر إلى الذهن ..
إذا كان القرآن الكريم قد أحدث فى نفوس أعدى أعداء محمد هذا الأثر من الاعجاب والأخذ بالألباب ودفعهم إلى التخفى والمجئ ليلاً ليستمتعوا بتلاوته على لسان نبيه حتى بزوغ الفجر .. ويستمر بهم هذا الحال ثلاث ليال وكأنهم أسرى لهذا الشوق الغالب ..
إذا كان هذا حال أعداء الله .. وأعداء نبيه فكيف يكون حال أحباء الله وأصفيائه عند تلقيه على قلوبهم المتفتحة للإيمان المشرئبة دوماً إلى طاعة الرحمن ..
أترانا نبعد عن الحقيقة حين نقول :
إنه فى الوقت الذى كان فيه المشركون الثلاثة فى خارج بيت النبوة يتسمعون إلى آيات الذكر الحكيم كانت خديجة بنت خويلد تتسمع أيضاً فى الداخل من فم الرسول الكريم ما يتلوه عليها وعلى نفسه تعبداً وامتثالاً لله رب العالمين .
إن المرأة العادية تفرح لفرح زوجها وتحزن لحزنه .. فكيف يكون حال خديجة مع زوجها الذى كرمها الله بالزواج منه .
إننا نستطيع أن نستخلص حقيقة مشاعرها بما مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم  من أحداث مفرحة أو أحداث حزينة مؤلمة .. لأن حياتها كانت حياته .. وحياته صلى الله عليه وسلم  كانت حياتها فقد امتزجا معا .. بمشاعرهما امتزاجاً كاملاً كأروع ما يكون الامتزاج بين زوج وزوجة .
ما أشد ما أوذى رسول الله صلى الله عليه وسلم  .. كما قال :
" لقد أوذيت فى الله  وما يؤذى ، وأُخِفتُ فى الله وما يخاف أحد . ولقد أتت علىَّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لى ولبلال ما يأكله ذو كبد ، إلا ما يوارى إبط بلال
فاطمة تسب قريشاً :
وأخرج البزار والطبرانى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال :
بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد ، وأبو جهل بن هشام ، وشيبة وعتبة إبنا ربيعة ، وعقبة بن أبى معيط ، وأمية بن خلف ورجلان آخران كانوا سبعة وهم فى الحجر ورسول الله صلى الله عليه وسلم  يصلى، فلما سجد أطال السجود . فقال أبو جهل :
أيكم يأتى جَزُورَ بنى فلان فيأتينا بفرثها (ما فى الكرش) فنقلبه على محمد، فانطلق أشقاهم عقبة بن أبى معيط فأتى به فألقاه على كتفيه ورسول الله صلى الله عليه وسلم  ساجدا.
قال ابن مسعود : وأنا قائم لا أستطيع أن أتكلم ليس عندى منعة تمنعنى ، فأنا أذهب إذ سمعت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم  ، فأقبلت حتى ألقت ذلك عن عاتقه()، ثم استقبلت قريشاً تسبهم ، فلم يرجعوا إليها شيئاً ، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم  رأسه كما كان يرفع عند تمام السجود .
فلما قضى صلاته قال : " اللهم عليك بقريش -ثلاثا- " عليك بعتبة ، وعقبة ، وأبى جهل وشيبة "
فلقيه أبو البخترى بسوط يتخصر به فلما رأى النبى أنكر وجهه ،
فقال : مالك ؟
فقال النبى : خل عنى
قال : علم الله لا أخلى عنك أو تخبرنى ما شأنك فلقد أصابك شئ
فلما علم النبى صلى الله عليه وسلم  أنه غير تارك له حتى يخبره قال :
" إن أبا جهل أمر فطرح علىَّ فرث "
فقال أبو البخترى :
هلم إلى المسجد .. فدخلا المسجد ..
ثم أقبل أبو البخترى إلى أبى جهل فقال :
يا أبا الحكم أنت الذى أمرت بمحمد فطرح عليه الفرث ؟
قال : نعم
فرفع أبو البخترى السوط فضرب رأس أبى جهل ..
فثار الرجال بعضها إلى بعض
وصاح أبو جهل : ويحكم ، هى له ، إنما أراد محمد أن يلقى بيننا العداوة وينجو هو وأصحابه.
وهكذا نرى صورة من صور إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم  وخديجة فى البيت ترسل ابنتها فاطمة رضى الله عنها لتزيح عن عاتق أبيها أشرف خلق الله وخاتم أنبيائه ورسله ما ألقاه هؤلاء المشركون من أحشاء البهائم عليه وهو ساجد لله تعالى .. وهم يتضاحكون من حوله
لاشك أنها الزوجة الوحيدة التى شاركته حياة الأذى والايذاء الذى كان يقع عليه طوال حياتهما معاً بمكة ..حين لم تكن الكلمة العليا .. ولا الكلمة المسموعة للمسلمين .. بل كانت لهؤلاء المشركين .. الفاجرين ..
        وكيف كان طهور النفس مصطبراً
                    وجاهد الكفر كم قاسى وكم عانى
        فما تورط فى لهو ولا طبعت
                    كَفَّاهُ فوق جبين البيدِ أدرانا
        ولاتلفت للدنيا وزخرفها
                    ولا تعبد مثل الناس أوثانا
        ولا استجار بغير الحق خاطره
                    ولا اطمأن بغير الله قربانا
عهد الصحيفة :
وحين أخذ الإسلام يقوى وينتشر وحمى النجاشى ملك الحبشة من لجأ إليه من المهاجرين المسلمين اجتمعت قريش فأتمرت بينها :
أن يكتبوا بينهم كتاباً يتعاقدون فيه ، على ألا يتزوجوا من بنى هاشم وبنى المطلب ولا يزوجوهم ..
ولايبيعوهم شيئاً ، ولايبتاعوا منهم
فكتبوا بذلك صحيفة ، وتعاهدوا وتواثقوا على ذلك ثم علقوا الصحيفة فى جوف الكعبة توكيداً بذلك الأمر على أنفسهم فلما فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنوا المطلب إلى أبى طالب ، فدخلوا معه فى شعبة واجتمعوا إليه.
وانضم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش ضد أخيه أبى طالب وأقرب الناس إليه .. حقداً ونكاية فى محمد صلى الله عليه وسلم  .. ومعيناً لقريش على هذا الحصار القاسى الذى استمر سنتان أو ثلاثة ..
وكانت خديجة زوج محمد وأثرى أثرياء قريش مع زوجها فى هذا الحصار الضارى .. فكان لايصل شئ إلى المحاصرين الإ سراً مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش
وذُكِرَ أن أبا جهل لقى حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد معه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة بنت خويلد وهى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم  ومعه فى الشعب تشاركه وعمه فى الضراء التى أصابتهم من هذا الحصار ، فتعلق أبو جهل بحكيم وقال له :
أتذهب بالطعام إلى بنى هاشم ؟
والله لاتبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة !
فجاء أبو البخترى بن هشام بن الحارث بن أسد فقال له مالك وله ؟
قال أبو جهل : إنه يحمل الطعام إلى بنى هاشم
قال له أبو البخترى محتجاً على سوء تصرف أبو جهل :
طعام لعمته خديجة عنده طلبته منه وبعثت إليه فيه ..
أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟!
خل سبيل الرجل ..
فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه
فضرب أبو البخترى أبا جهل فشجه ووطئه وطئاً شديداً وحمزة بن عبد المطلب يرى ذلك عن قرب
وإذا أمكن تفسير عداوة أبى سفيان وأبى جهل وأمثالهما على أساس التنافس القبلى أو تنافس البيوتات أو تنافس الأفراد حتى داخل البيت الواحد كما حدث بين أخوة يوسف عليه السلام .. فهل يمكن أن نفسر شدة عداوة أبى لهب لابن أخيه محمد على هذا الأساس أيضاً ..
ويكون السبب فى هذه العداوة الشديدة هو الكبرياء الشيطانى التى منعت ابليس من الاذعان لأمر الله تعالى بالسجود لآدم .. وهى نفس العداوة التى حالت بين أبى لهب عم الرسول وبين الاذعان لبن أخيه وطاعته فيما جاء به من دعوة إلى الله تعالى :
لقد روى أن أبا لهب كان يتهكم بمحمد كرسول .. وكان يقول فى بعض ما يقول :
يعدنى محمد أشياء لا أراها ، يزعم أنها كائنة بعد الموت فماذا وضع فى يدى بعد ذلك ؟
ثم ينفح فى يديه ويقول : تباً لكما ما أرى فيكما شيئاً مما يقول محمد
وكأنما كان يدعو على نفسه فأخذه الله بدعائه واستجاب له فيه ..
فأنزل الله تعالى :
"تبت يدا أبى لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب ، سيصلى نارا ذات لهب ، وامرأته حمالة الحطب ، فى جيدها حبل من مسد "
فصوره الله تعالى هذا التصوير الهازئ به وبامرأته فكان الجزاء من جنس العمل ..
ويعجب المرء لما هو منسوب لأبى طالب من شعر كثير ذكره ابن اسحق .. من أنه وجد محمداً نبياً كموسى
مما يفيد صراحة أنه آمن بمحمد وبما جاء به .. فى مثل قوله لما اجتمعت قريش على المقاطعة ووقعت على صحيفة بذلك :
        ألا أبلغن عنى على ذات بيننا
                    لؤيا وخصا من لؤى بنى كعب
        ألم تعلموا أنَّا وجدنا محمدا
                    نبياً كموسى خُطَّ فى أول الكتب
        وأن عليه فى العبادِ محبةً
                    ولاضير ممن خصه الله بالحب
.. إلى آخر هذه الأبيات
فمثل هذا الشعر يناقض مايقال من أن أبا طالب مات على الكفر وأن مؤازرته لمحمد صلى الله عليه وسلم  كانت مؤازرة للعصبية وليست مؤازرة إيمانية وهذا الأمر لايمكن بحثه واستقصاؤه فى هذه الصفحات
ــــــــــ
وعلى أية حال فقد عانت خديجة الكثير من هذا الحصار الذى ضُرِبَ عليها وعلى زوجها وعلى بنى هاشم وبنى عبد المطلب عدا أبى لهب الذى انضم إلى قريش أعداء محمد صلى الله عليه وسلم  كما عانى من نفس الحصار أبو طالب ..
وتجمعت قسوة الحصار مع كبر السن .. مع قضاء الله تعالى بانتهاء الأعمار .. فمات أبو طالب على ما مات عليه بينه وبين ربه ..
أقامت خديجة رضى الله عنها الطاهرة المطهرة فى شعب أبى طالب ثلاث سنين تاركة دارها الرحيبة وأموالها بمكة حتى أراد الله تعالى أن يفرج عنهم تلك الكربة فسخر هشاماً بن عمرو بن ربيعة وكان ذا شرف فى قومه أن يتذكر صلة قرابة له لبنى هاشم فجعل يمدهم بالطعام بأن يأتى بالبعير محملاً بالطعام حتى إذا أقبل به عند مدخل الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضربه على جنبه فيدخل الشعب على بنى هاشم وبنى المطلب ليلاً .. فيأخذون ما عليه من طعام ويتركوه ليعود إلى هاشم وهكذا ..
هشام يشكل فريقاً لنقض الصحيفة:
ذهب هشام إلى زهير بن أمية ..
وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب فقال له :
يازهير : أرضيت أن تأكل الطعام ، وتلبس الثياب وتنكح النساء ، وأخوالك فى الشعب لا يباعون ولا يبتاع منهم ، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم ؟
أما إنى أحلف بالله لو كانوا أخوال الحكم بن هاشم (أبى جهل) ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً .
قال زهير : ويحك ياهشام ! فماذا أصنع ؟
إنما أنا رجل واحد والله لو كان معى رجل آخر لقمت فى نقضها حتى أنقضها
قال هشام : قد وجدت رجلاً
قال : من هو ؟      قال  : أنا
قال له زهير : أبْغِنا رجلاً ثالثاً
وذهب هشام إلى المطعم بن عدى فقال له :
أرضيت أن يهلك بطنان من عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه ؟
أما والله لو تمكنوا من ذلك لانقلبوا عليكم سراعاً !
قال المطعم : ويحك فما أصنع .. لو كان معى رجل آخر لقمت فى نقضها
قال هشام : قد وجدت رجلاً
قال المطعم : فمن هو ؟
قال : أنا وزهير ابن أبى أمية
قال المطعم : أبْغِنا رابعاً
وبهذا الأسلوب اللبق الحصيف تمكن هشام بن عمرو من ضم اثنين آخرين هما : البخترى بن هشام ، وزمعة بن الأسود ..
وبذلك تكون الفريق المعارض لقريش بعيداً عن بنى عبد المطلب وهاشم فاجتمع الخمسة ليلاً بأعلى مكة وأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على نقض الصحيفة .. ولم يبق إلا التنفيذ ..
وتم التنفيذ بالأسلوب الحصيف الذى أتفقوا عليه
فقال زهير : أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم
نقض الصحيفة :
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم ..
وغدا زهير بن أبى أمية مرتدياً حلة جديدة ..
فطاف بالبيت سبعاً ، ثم أقبل على الناس فقال :
يا أهل مكة :
أنأكل الطعام ونلبس الثياب ، وبنو هاشم هلكى لايباع ولايبتاع منهم ،
والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة
قال أبو جهل .. وكان فى ناحية المسجد
كذبت والله لاتشق
قال : زمعة بن الأسود  :
أنت والله أشد كذبا ، مارضينا كتابها حيث كتبت
قال أبو البخترى :
صدق زمعة ، لانرضى ما كُتِبَ فيها ، ولانَقِر به
قال المطعم بن عدى :
صدقتما .. وكذب من قال غير ذلك .. نبرأ إلى الله منها ، ومما كُتِبَ فيها
قال هشام بن عمرو :
صدقتم جميعاً فيما قلتم ، هذه الصحيفة يجب أن تمزق
فقال أبو جهل وقد رأى ما رأى ، وسمع ما سمع :
هذا أمر قضى بليل ، وتم التشاور فيه بغير هذا المكان !
وأبو طالب جالس فى ناحية المسجد ..
فقام المطعم بن عدى إلى الصحيفة ليشقها ..
فوجد الأرضة قد أكلتها إلا :
" باسمك اللهم "
قال ابن هشام :
وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال لأبى طالب ياعم إن ربى الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها إلا اسما هو الله إلا أثبتته فيها وقرضت منه الظلم والقطيعة والبهتان .
فقال أبو طالب : أربك أخبرك بهذا ؟
قال : نعم
قال أبو طالب : فوالله ما يدخل عليك أحد ! ليخبرك بما قلته ثم خرج إلى قريش فقال :
يامعشر قريش .. إن ابن أخى أخبرنى بكذا وكذا ...
فَهَلُمَ صحيفتكم فإن كان كما قال ابن أخى فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عما فيها وإن يكن كاذباً دفعته إليكم
فقال القوم : رضينا
فتعاقدوا على ذلك .. ثم نظروا .. فإذا هى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  فزادهم ذلك شراً .
فعند ذلك صنع الرهط من قريش فى نقض الصحيفة ما صنعوا .
ويذكر فى الصحيح ما أصاب المسلمين من الجهد حتى إنهم كانوا يأكلون ورق الشجر والجلود اليابسة وكل ما تصل إليه أيديهم .
وهكذا أراد الله تعالى ألا تفارق الحياة أول أم للمؤمنين إلا بعد أن تخرج من هذا الحصار الظالم وتعود إلى بيتها بجوار الحرم المكى .. وبعد نحو ستة أشهر مات أبو طالب .. ولم تحضر خديجة مأتم فقد أسلمت الروح بعد ثلاثة أيام . بين يدى زوجها الذى كانت أول من آمنت به والذى ظل يذكرها دائماً
وسمى العام الذى توفيت فيه " عام الحزن "
وفى غزوة بدر أُسِر أبو العاص بن الربيع ، وبعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم  فى فدائه بمال .. وكان زوجها.
وفى المال قلادة لها كانت أهدتها لها خديجة رضى الله عنها وأدخلتها بها على أبى العاص حين بنى بها
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم  القلادة رق لها رقة شديدة وذرفت عيناه وقال : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها ما لها ، فافعلوا
فقالوا : نعم يارسول الله .. فأطلقوه ..
وردوا لزينب رضى الله عنها الذى لها
ومنه قلادتها المهداه من أمها أول أم للمؤمنين
وفى تبيان فضلها بين النساء :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  :
" خير نساء العالمين .. مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم
وخديجة بنت خويلد .. وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم 
وعن ابن عباس قال :
خطَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  فى الأرض أربع خطوط
قال : أتدرون ما هذا ؟
قالوا : الله ورسوله أعلم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  :
أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون .
وعن عائشة رضى الله عنها :
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  بشر خديجة ببيت فى الجنة من قصب (من لؤلؤ) "
لاصخب فيه ولانصب (لا صياح ولا منازعة فيه ولا تعب)
وقالت عائشة رضى الله عنها
" ما غرت على أحد من أزواج النبى كما غرت على خديجة وما بى أن أكون أدركتها ، وماذاك إلا لكثرة ذكر رسول اله صلى الله عليه وسلم لها.
وإن كان مما تذبح الشاه يتبع بها صدائق خديجة فيهديها لهن
وعن أبى زوعة قال : سمعت أبا هريرة قال :
" أتى جبريل النبى صلى الله عليه وسلم  فقال :
يارسول الله ..
هذه خديجة قد أتتك ومعها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هى أتتك ..
فاقرأ عليها السلام من ربها ومنى وبشرها ببيت فى الجنة من قصب ، لا صخب فيه ولانصب"
وأخيراً قالت عائشة لا أذكرها بسيئة أبداً
ولكن كيف كان ذلك ؟
كان بعد أن لقنها الرسول صلى الله عليه وسلم  درساً شديداً فى عدم التعرض لها بما لايليق بمكانة هذه السيدة الجليلة التى دافع عنها الرسول بعد رحيلها عن الحياة .. كما دافعت هى عنه فى حياتها بكل ماتملك ..
عن عائشة رضى الله عنها قالت :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  لايكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها
فذكرها يوماً من الأيام ..
فأدركتنى الغيرة فقلت : هل كانت إلا عجوزاً ..
فقد أبدلك الله خيراً منها !
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم  حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال :
لا والله ، ما أبدلنى الله خيراً منها
آمنت إذ كفر الناس . وصدقتنى وكذبنى الناس وواستنى فى مالها إذ حرمنى الناس ، ورزقنى الله منها أولادا إذ حرمنى أولاد النساء
قالت عائشة : فقلت فى نفسى : لا أذكرها بسيئة أبداً .
ــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخر الزوار

Flag Counter