كعـــــــــــــب
بن مالك الخزرجى
أبشر .. يا كعب ..
بخير يوم مر عليك
ـــــــــــ
- هو كعب بن مالك بن أُبَى كعب :
جده أبو كعب: يسمى عمرو بن القين بن سواد بن غنم
ابن كعب بن سلمة بن سعد بن على ...
الأنصارى الخزرجى السلمى ..
كنيته : قيل : أبو عبد الله
وقيل : أبو عبد الرحمن .
أمه : ليلى بنت زيد بن ثعلبة ...
من بنى سلمة أيضاً
شهد العقبة ...
وشهد المشاهد كلها لم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فى غزوة بدر ، وغزوة تبوك .
- آخى الرسول عليه السلام بينه وبين طلحة بن عبيد الله حين آخى بين المهاجرين والأنصار .
- كان من شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم .
- رَوَىَ عنه :
- أبو جعفر محمد بن على
- وعمر بن الحكم بن ثوبان ..
- وغيرهما
مشهد العقبة :
خرج سبعون من مسلمى الأنصار مع منْ خرج من حجاج قومهم من أهل الشرك ومن هؤلاء السبعين رجلاً كان كعب بن مالك ..
وفى مكة واعدوا رسول الله على اللقاء فى العقبة من أوسط أيام التشريق .
كان يعتز بشهوده العقبة لأنها كانت بداية كرامتهم كأوائل المسلمين فى المدينة ... كما كانت بداية النصر لنبيه وإعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك والمشركين .
بايعهم الرسول يداً بيد وطلب منهم العودة إلى رحالهم ...
وسُمِع صارخ من رأس العقبة ينادى :
يا أهل الجباجب () ..
هل لكم فى مذمم() والصباه()
قد اجتمعوا على حربكم "
وبات كعب بن مالك ومن شهد العقبة فى رحالهم ... وفى الصباح غدت عليهم جلة من قريش قالوا لهم :
"يا معشر الخزرج .. بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا ..
تستخرجونه من بين أظهرنا ... وتبايعونه على حربنا
.. وإن أبغض شئ إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينكم .."
فأقسم لهم بعض مشركى المدينة الذين حضروا الحج معهم ولم يعلموا ببيعة العقبة .. أقسموا أن شيئاً من ذلك لم يحدث ..
واراد كعب بن مالك أن يغير اتجاه الحديث فقال لأحد المبايعين :- يا أبا جابر :-
" أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا
مثل الفتى القرشى المشار إليه وصاحب الحذاء هو :
الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومى
وسمع الحارث هذا القول فخلع حذاءه من رجليه ورمى بهما إلى كعب بن مالك .. مقسماً عليه بانتعالهما
قال أبو جابر لكعب بن مالك :
"أردد عليه نعله فقد أحفظته() "
قال كعب : والله لا أردهما ..
هذا والله فأل حسن
والله لئن صدق الفأل لأسلبنه ()
---
وفى أُحُد ..
قاتل كعب بن مالك فى أُحُد ولبس لأمة الرسول
ولبس الرسول عليه الصلاة والسلام لأمته (درعه)
وكان هو أول من عرف أن الرسول لم يقتل ..
وبشر المسلمين بسلامته .. مما أعاد إليهم الحمية وبث فى عروقهم ضراوة القتال .. والإصرار على حماية الرسول مهما كانت التضحيات .
قال كعب :
بعد أن قال الناس قُتِل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
رأيته وعرفته من عينيه .
" كانت عيناه تزهران وتضيئان من تحت المغفر"
فناديت بأعلى صوتى :
" يا معشر المسلمين ابشروا
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم "
فأشار إليه رسول الله أن أنصت فلما عرف المسلمون رسول الله نهضوا به .. ونهض معهم نحو الشعب .. ونهض معه أبو بكر الصديق ..عمر بن الخطاب .. على بن أبى طالب .. طلحة بن عبيد الله .. الزبير بن العوام رضوان الله عليهم جميعاً .. والحارث بن الصمه .. ورهط من المسلمين .
ولما أسند رسول الله عليه السلام فى الشعب ظن أُبَى بن خلف
أن الرسول قد أصبح فريسة سهلة له فى هذا الوقت
فأدرك الرسول وهو يقول :
“ أى محمد ، لا نجوت إن نجا “
وقد حقق الله لأبى بن خلف دعوته !
بأن أنجى الله رسوله ..
وتحقق عدم نجاة ابن خلف .. ألم يطلب هو ذلك
قال المسلمون المحيطون برسول الله صلى الله عليه وسلم
" أيعطف عليه رجل منا ؟ " يا رسول الله ؟
قال الرسول : دعوه ..
فلما دنى .. تناول رسول الله الحربة من الحارث بن الصمه وانتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء() عن ظهر البعير إذا انتفض بها ..
ثم استقبله فطعنه فى عنقه طعنه تدأدأ منها عن
فرسه مراراً .. وتقلب وجعل يتدحرج
أشهد أنه لا إله إلا الله .. وأنك رسول الله حقاً وصدقاً
أُبَى ابن خلف على فرسه بكامل عدته
وأنت يا رسول الله واقف على قدميك ..
فى حالة يعز على المؤمنين وصنعها لما كان بك من إصابات وجراحات ولكنك تقبل التحدى .. ولا تدع أحداً غيرك يتصدى له
رغم أن أى واحد ممن ثبتوا معك وكانوا حولك
كان قادراً بعون الله أن يجندله ويقتله ..
ولكنك أردت أن تثبت للجميع وعلى وجه اليقين كم كانت
شجاعتك حتى فى أشد حالات إصاباتك .. كما تثبت صدق نبوتك ورسالتك ..
ألم يكن يقول لك كلما يلقاك: "أنى سأقتلك يا محمد "
وكنت ترد عليه فى ثقة لا يحدها حد ..
"بل أنا إن شاء الله الذى يقتلك" .. وها قد فعلت .
وعادت الذاكرة بكعب بن مالك إلى سنوات مضت ..
إلى أول لقاء له برسول الله صلى الله عليه وسلم ..
كان ذلك قبيل بيعة العقبة .. رآه بالمسجد بمكة ..
كان معه البراء بن معرور ..
سألا رجلاً بمكة عنه فقال لهما : " تجدانه بالمسجد يجلس معه
دائماً عمه العباس بن عبد المطلب ..وكان العباس معروفاً لهم لكثرة تردده على يثرب وغيرها للتجارة ..
وهناك فى المسجد .. وفى حضرة النبى .. أسلموا ثم جلسوا
قال النبى للعباس : أتعرف من هذين الرجلين ؟
قال العباس :
نعم .. هذا البراء بن معرور سيد قومه . وهذا كعب بن مالك
قال الرسول : الشاعر ؟
قال العباس : نعم
يقول كعب : والله ما أنسى قول الرسول :
الشاعر ؟
اغتبط كعب أن الرسول يعرفه بشعره قبل أن يراه
ويتعرف عليه لأول مرة ..
كان الشعراء يتمتعون بشهرة عالية فى ذلك الزمان ...
لأنهم كانوا لسان حال القبائل المعبرين عن أفراحهم وأحزانهم ومفاخرهم ومعاركهم ..
كان الشعراء يقومون بدور يعادل دور أجهزة الإعلام كلها فى زماننا هذا ..
وأصبح كعب من شعراء الرسول منذ بيعة العقبة
بل منذ التفت إليه الرسول قائلاً :
كعب بن مالك الشاعر ؟
إذن عليه أن يتصدى بالسيف والرمح واللسان معاً لسيوف المشركين .. وألسنتهم مقاتلين وشعراء ..
عليه أن يعبر عن قيم الإسلام التى جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله ..
ويُظْهِرُ الفوارق بين الإسلام وظلام الشرك والإلحاد والجاهلية ..
المسلم يدافع عن الحق ويفخر بالموت فى سبيله لأنه يؤمن
أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون
أما المشركون فلا دافع لهم للقتال إلا الحمية الجاهلية ..
والنعرة القبلية المشحونة بالحقد والكراهية ..
تصدى لشاعر المشركين .. "هبيرة بن وهب" ووقف له بالمرصاد
قال هبيرة يناصر المشركين فى أحد .. ويوجه خطابه إلى هند
ما بال همٍّ عميدٍ بات يطرقنى ..
بالود من هند إذ تعدوا عواديها
باتت تعاتبنى هند وتعذلنى ..
والحرب قد شغلت عنى مواليها
مهلاً فلا تعذلينى إن من خلقى ..
ما قد علمت وما إنْ لست أخفيها
إلى آخر ما قال من شعر لا يستند إلى عقيدة قوية يزود عنها
ورد عليه كعب بن مالك .. ولا ينسى .. بل وكيف ينسى ..
أنه يدافع ويجالد عن عقيدة حتى لو فاتهم النصر فى بعض الأحيان لأسباب يجعلها الله تعالى عظة وعبرة ودرساً لهم فى مقبل الأيام
يقول كعب من قصيدة طويلة :
مجالدنا عن ديننا كل فخمة ()
مُدَرَّبَهّ فيها القوانيس تلمع
ويذكرهم ببدر فيقول :
ولكن ببدر سائلوا من لقيتم
من الناس والأنباء بالغيب تُسَمَعُ
وإنَّ بأرض الخوق لو كان أهلها
سوانا لقد أجلوا بليل وأقشعوا
نجالد لا تبقى علينا قبيلة
من الناس إلا أن يهابوا ويفظعوا
وفينا رسول الله نتبع أمره
إذا قال فينا القول .. لا نتطلع
تدلىَّ عليه الروح من عند ربه
يُنَزّلُ من جو السماء ويرفع
نشاوره فيما نريد وحسبنا
إذا ما اشتهى أنَّا نطيع ونسمع
وقال رسول الله لما بدوا لنا ..
ذروا عنكمُ هول المنيَّاتِ واطعموا
وكونوا كمن يشرى الحياة تقرباً
إلى ملك يحيا لديه .. ويرجع
ولكن خذوا أسيافكم وتوكلوا
على الله .. إن الأمر لله أجمع
ـــــــــــــــ
وهكذا نرى الفوارق الأساسية بين شعر المسلمين وشعر المشركين
شعراء المسلمين .. يؤمنون بالله تعالى وبرسوله .. يستندون إلى
عقيدة راسخة لديهم .. يعدون السلاح اللازم للمعركة ..
ويتوكلون على الله تعالى .. والنتيجة معروفة لديهم .. وهم يسعدون بها فى كل حال .. لأنها هى حصولهم على إحدى الحسنيين .. النصر أو الشهادة
إسلام دوس ...
وكان شعر كعب يدخل الرعب فى قولب المشركين
بما يحمله من إشارات القوة والإصرار على قتالهم حتى النصر ...
والخوف والرعب واحدٌ من جنود الله ..
شهره الله على لسان كعب بن مالك .. حتى لقد قيل إن "دوساً" أسلمت فَرَقَاً وخوفاً من قول كعب بن مالك حينما سمعت إنشاده :
قضينا من "تهامة" كل وتر
وخيبر ثم أغمدنا السيوف
نُخَيٍّرها .. ولو نطقت لقالت
قواطعهن "دوساً" أو " ثقيفاً "
أرأيت إلى هذا التهديد المخيف الذى أدخل الرعب فى قلبها
فقالت دوس : انطلقوا فخذوا لأنفسكم قبل أن ينزل بكم ما نزل بثقيف !
وحينما نزلت .
" والشعراء يتبعهم الغاوون "
ذهب شعراء الرسول الثلاثة إليه
إنهم كعب بن مالك ، وحسان بن ثابت ، وابن أبى رواحة
ذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يبكون ...
قال لهم الرسول :
ما الذى يبكيكم ..؟
قالوا : "هل نزلت فينا هذه الآية "
من القرآن الكريم : "لقد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء
قال الرسول عليه الصلاة والسلام :
فمن هم .. إلا الذين
"الذين أمنوا ؟ وعملوا الصالحات
هم أنتم ..
ومن هم ...ذكروا الله كثيراً
هم أنتم ..
ومن هم .. الذين انتصروا من بعد ما ظلموا ؟
هم أنتم ..
وسرى عنهم ما ألم بهم من حزن وجزع ..
ويمضى بنا ركب كعب حتى نصل إلى "تبوك"
ـــــــــــــــ
" تبوك "
مدينة على حدود الشام ..
بلغ النبى عليه السلام أن الروم تعد الجيوش لتغزوا بها حدود العرب الشمالية حتى تُوقِفُ زحف جحافل الجنود الإسلامية المناوئة لسلطان الروم فى الشمال وسلطان فارس فى الحيرة ..
وقرر النبى عليه السلام مواجهة هذه القوى بنفسه وأخذ سلاح المبادرة حتى يقضى على أى أمل يداعبهم فى غزو الجزيرة العربية أو التعرض للعرب فى بلادهم .
وأعلن الرسول عن عزمه على السير إلى " تبوك "
على غير عادته فى الغزوات الأخرى .. لبعد المسافة ومشقة السير.. وحتى يستكمل الجند معدات القتال ووسائل السفر والماء والمؤنة وأخطر جميع القبائل المشاركة فى هذا السير .. كما ابلغ أثرياء المسلمين يحثهم على المشاركة بأموالهم فى تجهيز الجيش الإسلامى الكبير ... ...
كشف النقاب :
بعد المسافة ... مشقة السفر .. الحر الشديد .. المخاطرة .. نفقات التجهيز ..
كل هذه العوامل أدت إلى كشف النقاب وإزاحة الستار عن قلوب المنافقين من جانب وعن المؤمنين الصادقين من جانب آخر ..
الجَدُ ابن قيس .. كان يمثل نموذجاً للمنافقين .
قال له الرسول :
" يا جد .. هل لك هذا العام فى قتال بنى الأصفر -أى الروم ؟ "
أجاب الجدى : أوتأذن لى يا رسول الله .. ولا تفتنى !
لماذا الفتنة يا جد الفسق والفجور !! ؟
هذا التساؤل لم يصدر عن رسول الله ..
ولكنى أتخيله من واقع إجابة هذا الجد"
قال جد : "فوالله لقد عرف قومى أنه
ما من رجل أشدُّ عجباً بالنساء منى !
وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر
ألا أصبر ! "
أرأيت إلى إجابة هذا الماجن ؟ وما بها من سوء أدب مع الرسول
ألا يستحق منا أن نصفه بما هو أشد
وكان السفر البعيد .. والحر الشديد لم يمنعه كل
ذلك من فضح نفسه ..
إنه يعتذر عن الذهاب وكأنه كان مدعوا إلى
حفل ساهر خصص للقاء نسوة بنى الأصفر .. !
ونزل القرآن الكريم بقوله تعالى :
" ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتنى
ألا فى الفتنة سقطوا
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين "
أرأيت إلى هنا الإعجاز الإلهى الذى يعطينا اللقطة
المعبرة والصورة البلاغية العالية الرفيعة فى إيجاز بليغ
لا يخل بما فى اعتذار "جد" بما لا يليق الاعتذار
فى مثل هذه الظروف
ومن قبل هذا كشف الله تعالى ما دار بين بعض المنافقين
وبعض من تثبيط الهمم والتعلل بالحر وشدته تبريراً
للقعود عن الجهاد .. ورد الله تعالى عليهم بأنه ليس أشد من حر نار جهنم فأنزل الله تعالى :
" وقالوا لا تنفروا فى الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلاً .. وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون" التوبة 81-822
أما جانب المؤمنين الصادقين فقد بذلك كل واحد منهم
أقصى ما يستطيع من مال .. ونفقة وسلاح ..
وبقى من المؤمنين الصادقين من لا يملك شيئاً ..
فذهبوا لرسول الله وقالوا له :
"احملنا فنحن لا نجد ما يحملنا "
وقال لهم رسول الله :
" وأنا لا أجد ما أحملكم عليه
فرجعوا باكين حزانى لعدم مشاركتهم فى هذا الجهاد
وقد سجل الله تعالى لهم هذا الموقف المؤثر الذى ينبئ
عن إخلاصهم العظيم لله ولرسوله وللإسلام
جاء ذلك فى قوله تعالى :
"ليس على الضعفاء ولا على المرضى
ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج .."
التوبة 91
" ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم
قلت لا أجد ما أحلكم عليه
تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً
ألا يجدوا ما ينفقون "
التوبة 92
وقد عُرِفَ هؤلاء منذ تلك اللحظة "بالبكائين" .
ـــــــــــــــ
جيش العسرة ..
تجهز جيش العسرة من ثلاثين ألفا من المسلمين .
يتقدمهم عشرة آلاف فارس ..
وقاد هذا الجيش الجرار نبى الله محمد صلى الله عليه وسلم
عابراً به الصحراء نحو الشمال ..
ما ذكرنا هو وصف لحالة الجيش الإسلامى وهو يستكمل استعداداته
بالمدينة ... ولكن ماذا لقى بعد أن غادر المدينة حتى وصل إلى "تبوك "..؟
لكى تبدو لنا الصورة واضحة من جميع الزوايا التى ننظر إليها منها فقد خرج الجيش إلى " تبوك " فى سنة مجدبة .
أصاب المسلمين فيها جهد شديد
من صور المشقة :
ذُكِرَ أن الرجلين كان يشقان التمرة الواحدة بينهما ...
وكان النفر يتداولون التمرة الواحدة بينهم .. يمصها هذا ..
ثم يشرب عليها .. ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها ..
وكان هذا ابتلاء شديداً من الله للمسلمين .
وقيل لعمر بن الخطاب حدثنا عن " تبوك " فقال :
خرجنا مع رسول الله إلى " تبوك " فى قيظ شديد فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع .. وحتى أن الرجل منا كان يذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع .. وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه .. ويجعل ما بقى على كبده ..
فقال أبو بكر الصديق :
يا رسول الله : إن الله عز وجل قد عودك فى الدعاء خيراً فادع لنا
قال الرسول : تحب ذلك ؟
قال : نعم
فرفع الرسول يديه فلم يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت
ثم سكنت .. فملؤا ما معهم .. ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر .
وكاد يشك البعض فى دينهم ويرتاب للذى نالهم من المشقة والشدة فى سفرهم وغزوهم ..
ثم أن الله تعالى رزقهم الإنابة إليه والرجوع إلى الثبات على الدين!.
قصدنا أن نقدم هذه الصورة عن جيش العسرة لنتعرف على شدة الابتلاء الذى قد يتعرض له المسلمون ..
ولا علاج له إلا الصبر والتمسك بحبل الله المتين حتى يقبل الله العفو ويرفع ما أنزل من ابتلاء .
نتعرف كذلك على مدى قدرة الرسول على التحمل والصبر فى جميع أحواله .. وحتى إنه لم يستسق إلا بعد أن طلب منه الصديق الاستسقاء استحياءً من الله تعالى .. وبعد أن أحس الرسول أن الصبر أوشك أن ينفد ممن معه .
نتعرف أيضاً على مدى المأزق الذى يواجه المتخلفين عن هذا الركب الذى يقوده رسول الله وكبار الصحابة وسائر المؤمنين الصادقين ..
ماذا يقول المتخلف عن هذه الغزوة للرسول ؟
وماذا عساه أن يقدم من أعذار ؟
وهل ينجو - رغم تخلفه - من مثل هذا الضيق الذى تقلب فيه المسلمون .
وأخيراً .. ماذا كان من أمر كعب بن مالك ؟
فلندعه هو يتحدث عن نفسه
...
قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله فى غزاة غزاها قط .. إلا فى غزاة "تبوك"
غير أنى كنت تخلفت فى غزاة بدر ..
ولم يعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً تخلف عنه فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
ولقد شهدت مع رسول الله ليلة العقبة حين تواثقنا وتعاهدنا على الإسلام ... وما أحب أن لى بها مشهد بدر .
وإن كانت بدر أذكر فى الناس منها وأشهر .
أسباب التخلف :
قال كعب : ..
" وكان من خبرى حين تخلفت ..
أنى لم أكن قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنه فى تلك الغزاة !
والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتها فى تلك الغزاة !
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى() بغيرها ..
حتى كانت تلك الغزوة ..
فغزاها رسول الله فى حر شديد ..
واستقبل سفراً بعيداً ، ومفاوز() .. وأستقبل عدواً كثيراً
فخَلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم
فأخبرهم وجهه الذى يريد ..
والمسلمون مع رسول الله كثير لا يجمعهم كتاب حافظ
( أى ديوان مسجلة فيه الأسماء )
قال كعب : فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحى من الله عز وجل .
وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت تلك الثمار والظلال وأنا إليها أصعر () .. فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه فطفقت أغدو لكى أتجهز معه .. فأرجع ولم أقض من جهازى شيئاً
فأقول لنفسى أنا قادر على ذاك إذا أردت
فلم يزل ذلك يتمادى بى .. حتى استمر بالناس الجد .
فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه ..
ولم أقض من جهازى شيئاً ..
وقلت أتجهز بعد يوم أو يومين ! ثم ألحقه
فغدوت بعد ما فصلوا () لأتجهز .. فرجعت ولم أقض من جهازى شيئاً ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً ..
فلم يزل ذلك يتمادى بى حتى أسرعوا .. وتفارط () الغزو فهممت أن أرتحل فألحقهم .. وليت أنى فعلت
ثم لم يٌقَدَّر ذلك لى ..
فطفقت إذا خرجت فى الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزننى أنى لا أرى إلا رجلاً مغموصاً ()عليه فى النفاق ..أو رجلاً ممن عذره الله عز وجل
متى ذكر الرسول كعب ؟
(لم يذكرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك)
فقال وهو جالس فى القوم بتبوك :
- ما فعل كعب بن مالك ؟
أجاب رجل من بنى سلمة :
حبسه يا رسول الله برداه .. والنظر فى عِطْفَيهِ!(أى التكبر والخيلاء)
فقال معاذ بن جبل للرجل :
بئسما قلت.. والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــ
العودة من تبوك :
قال كعب بن مالك :
لما بلغنى أن رسول الله قافل() حضرنى بثى()
وطففت أتذكر الكذب ..
وأقول : بماذا أخرج من سخطه غداً ..؟
وأستعين على ذلك بكل ذى رأى من أهلى ..
فلما قيل لى أن رسول الله قد أظل قادماً .. انزاح عنى الباطل
وعرفت أنى لم أنج منه بشئ أبدا .. فأجمعت صدقه ..
فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين .. ثم جلس للناس ..
فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون .. فطفقوا يحلفون له ويعتذرون إليه ..
وكانوا بضعة وثمانين رجلاً .. فيقبل منهم رسول الله علانيتهم .. ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى .
المواجهة :
جئت .. فلما سلمت عليه .. تَبَسَم .. تَبَسُمُ الغاضب
ثم قال لى : (تعال)
فجئت أمشى حتى جلست بين يديه
فقال لى : ما خلفك .. ؟
ألم تكن قد اشتريت ظهراً ؟
فقلت : يا رسول الله ..
إنى لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر ..
لقد أُعْطِيتُ جدلاً ..
ولكنى والله لقد علمت ..لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عنى ليوشكن الله أن يُسْخِطَكَ علىّ ..
ولئن حدثتك بصدق تجد() علىَّ فيه
إنى لأرجو عُقْبَىَ ذلك من الله عز وجل ..والله ما كان لى عذر ..
والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر منى حين تخلفت عنك
قال رسول الله : " أما هذا فقد صدق .. فقم حتى يقضى الله فيك "
فقمت .. وقام إلى رجال من بنى سلمة واتبعونى
فقالوا لى : والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا
ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر به المتخلفون ..
فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله لك
قال كعب : فوالله مازالوا يؤنبونى حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسى !
ثم قلت لهم : هل لقى معى هذا أحد ؟
قالوا : نعم .. لقيه معك رجلان .. قالا مثل ما قلت .. وقيل لهما مثل ما قيل لك
قلت : فمن هما ؟
قالوا : مرارة بن الربيع العامرى ، وهلال بن أمية الواقفى
فذكروا لى رجلين صالحين قد شهدا بدرا ..لى فيهما أسوة
فمضيت حين ذكروهما لى
ـــــــــــــــ
الأمر بالمقاطعة
قال كعب : ونهى رسول الله المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثة من بين من تخلف عنه
فاجتنبنا الناس .. وتغيروا لنا .. حتى تنكرت لى الأرض.
فما هى بالأرض التى كنت أعرف :
فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ..
- فأما صاحباى : فقد استكانا وقعدا فى بيوتهما يبكيان
- وأما أنا : فكنت أشد القوم وأجلدهم ..
فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين .. وأطوف بالأسواق فلا يكلمنى أحد
وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى مجلسه بعد الصلاة فأسلم .. وأقول لنفسى : أحرك شفتيه برد السلام علىّ أم لا .. ثم أصلى قريباً منه .. وأسارقه النظر.. فإذا أقبلت على صلاتى نظر إلىّ .. فإذا التفت نحوه أعرض عنى
كعب يتسور الحيطان !
قال كعب :
حتى إذا طال علىّ ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى أتيت وتسورت حائط أبى قتادة .. وهو ابن عمى وأحب الناس إلىّ .. فسلمت عليه !
فوالله مارد علىّ السلام فقلت له :
يا أبا قتادة .. أنشدك الله .. هل تعلم أنى أحب الله ورسوله ؟!
فسكت أبو قتادة ..فعدت له فنشدته الله .. فسكت
فعدت له فنشدته فسكت فقال :الله ورسوله أعلم ..
ففاضت عيناى .. وتوليت حتى تسورت الجدار .. فبينما أنا أمشى بسوق المدينة ..
ابتلاء آخر :
إذا أنا بنبطى من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول :
- من يدلنى على كعب بن مالك .. فطفق الناس يشيرون له إلىَّ ..
حتى جاء فدفع إلىّ كتاباً من ملك غسان .. وكنت كاتبا .. فإذا فيه :
أما بعد :
فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك وأن الله لم يجعلك فى درا هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك ..
فقلت حين قرأته : وهذا أيضاً من البلاء
فتيممت به التنور فسجرته به (أى ذهبت به إلى الفرن فأحرقته)
اعتزال الزوجة :
حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين ..
إذا برسول رسول الله يأتينى يقول :
يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتزل امرأتك
قلت : أطلقها ؟ أم ماذا أفعل ؟
قال : بل اعتزلها ولا تقربها
وأرسل إلى صاحبى بمثل ذلك
قلت لامرأتى : الحقى بأهلك .. فكونى عندهم حتى يقضى الله فى هذا الأمر ما يشاء
وجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله فقالت :
يا رسول الله :
إن هلالا شيخ ضعيف ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه ؟
قال الرسول : (لا .. ولكن لا يقربك)
قالت : (إنه والله ما به من حركة إلى شئ )
(وإنه والله مازال يبكى .. منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا)
قال لى بعض أهلى :
يا كعب : لو استأذنت رسول الله فى امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه
قلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدرى ما يقول فيها إذا استأذنته .. وأنا رجل شاب
ولبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة .. على ظهر بيت من بيوتنا ..
فبينا أنا جالس على الحال التى ذكر الله تعالى منا قد ضاقت علىَّ نفسى .. وضاقت علىَّ الأرض بما رحبت ..
سمعت صارخاً أوفى- قام - على جبل " سلع " يقول بأعلى صوته :
أبشر يا كعب بن مالك !
فخررت ساجداً .. وعرفت أنه قد جاء الفرج من الله عزّ وجل .. بالتوبة علينا فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر .
فذهب الناس يبشروننا .. وذهب قِبَل صاحبى مبشرون
وركض إلى رجل فرسا .. وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل ..
فكان الصوت أسرع من الفرس .. فلما جاءنى البشير الذى سمعت صوته ..
نزعت له ثوبى فكسوتهما إياه ببشارته ..
والله ما كنت أملك يومئذ غيرهما ..
واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وتلقانى الناس فوجاً فوجا .. يهنئونى بتوبة الله ..
يقولون : ليهنك توبة الله عليك .. حتى دخلت المسجد ..
فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فى المسجد والناس حوله .. فقام إلىَّ طلحة بن عبيد .. يهرول حتى صافحنى وهنأنى ..
والله ما قام إلى رجل من المهاجرين غيره .. فكنت لا أنساها لطلحة
قال كعب :
فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور
" أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك "
قلت : أمن عندك يا رسول الله ؟ أم من عند الله ؟
قال : " لا .. بل من عند الله "
قال كعب :
" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأن قطعة قمر حتى يُعْرَفَ ذلك منه "
فلما جلست بين يديه قلت :
" يا رسول الله .. إن من توبتى أن أتخلع من مالى صدقة إلى الله وإلى رسوله "
قال : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك "
قلت : " فإنى أمسك سهمى الذى بخيبر "
وقلت : يا رسول الله .. إنما نجانى الله بالصدق .. وإن من توبتى ألا أُحَدِثَ إلا صدقاً ما بقيت ..
قال كعب : فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق فى الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلانى الله تعالى والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومى هذا وإنى لأرجو أن يحفظنى الله فيما بقى ..
قال كعب : وأنزل الله تعالى :
" لقد تاب الله على النبى والمهاجرين والأنصار
الذين اتبعوه فى ساعة العسرة ..
من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم
ثم تاب عليهم أنه بهم رءوف رحيم
وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى
إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت
وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه
ثم تاب عليهم ليتوبوا .. أن الله هو التواب الرحيم
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين "
إلى آخر الآيات ..
قال كعب : فوالله ما أنعم الله علىَّ من نعمة قط
بعد أن هدانى للإسلام .. أعظم فى نفسى من صدقى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أن لا أكون كذبته فأهلك .. كما أهلك الذين كذبوه
فإن الله تعالى قال للذين كذبوه حين أنزل الوحى شر ما قال لأحد ..
فقال تعالى :
" سيحلفون بالله لكم اذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ..
فأعرضوا عنهم إنهم رجس
ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون
يحلفون لكم لترضوا عنهم
فإن ترضوا عنهم ..فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين"
وبالتأمل فى الآيات البيانات السابقة ..
تنبعث فى النفس هذه الخواطر ..
إن الله تعالى سخط على فريق المنافقين ..
وما صدر عنهم فى غزاة (تبوك) سخطاً شديداً وتوعدهم بالعذاب
لم يقبل أعذارهم الكاذبة التى قبلها منهم الرسول ولم يقبل استغفار الرسول لهم ..
الذى قبل منهم ما أظهروه .. وترك سرائرهم إلى الله تعالى ولعل هذا الرفق من الرسول بهم فى هذا الموقف هو الذى عاتبه الله عليه.
" لقد تاب الله على النبى "
الفريق الآخر .. يشمل المهاجرين والأنصار
من ضاق منهم بالحر اللافح .. والماء الذى كانوا يعتصرونه من فرث رواحلهم والظمأ الذى يكاد يقطع الرقاب كما حدث عمر بن الخطاب إلى آخر ما كان من شدة البلاء والعناء ولكن قلوبهم ظلت على إيمانهم الراسخ العميق ..
وفريق آخر من المهاجرين والأنصار ظل على إيمانه وإن راود قلوبهم شئ من الشك لقسوة الموقف الذى عاشوا فيه .
والفريق الثالث هم على التحديد : الثلاثة الذين خُلِّفوا
ولقد تاب الله على الجميع .. تاب الله على النبى .. وعلى المهاجرين والأنصار ..
وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا
هؤلاء الثلاثة تاب الله عليهم لصدقهم
فيما أخبروا به الرسول صلى الله عليه وسلم رغم تخلفهم بلا عذر .
والنص القرآنى يقول :
" الذين خُلًّفوا " ولم يقل " الذين تخلفوا "
أى الذين تركوا دون الفصل فى أمرهم حتى يفصل الله فيهم عاقبهم الرسول على التخلف بإصدار أمره لجميع المسلمين بالمدينة بمقاطعتهم ..
وعقوبة (المقاطعة الجماعية) مع ترك الإنسان حراً يذهب حيث يشاء دون أن يحادثه أحد ..أو يعيره التفاتاً .. هى عقوبة إسلامية لا نظير لها استمرت المقاطعة خمسين يوماً ..
وتشير الآيات إلى أنهم لقوا من الإبتلاءات والشدة والآلام والضيق طوال هذه المدة ما يعجز عنه الوصف بغير ما جاء فى القرآن الكريم ..
إن ما عاناه مؤمنوا جيش العسرة كان معاناة مادية لا يستهان بها .
أما ما عاناه كعب بن مالك وصاحباه ..
فكان شيئاً آخر غير مادى .. كان عذاباً مسلطاً على نفوسهم وأرواحهم
ولنا أن نتخيل إنسانا ضاق به بيته .. ضاق به طريقه .. ضاق به بلده ..
ضاقت عليه الأرض كلها بسمائها .. بهوائها .. بأناسها .. بأشجارها .. بطيورها .. بأزهارها
ضاقت عليه بما رحبت !
كما جاء فى التعبير القرآنى المعجز
فما عاد شئ يدخل البهجة والسرور على القلب الحزين المقرور ..
فإذا هرب مما يحيط به .. وكيف له ذلك ..
وعاد إلى نفسه متأملاً يتلمس فى جوانبها الفرار مما حوله طلباً لشئ من راحة أو سكينة .. ضاقت عليه نفسه ..
يا الله .. أى عذاب هذا ؟!
لقد صارت الأرض كل الأرض بما فيها ومن فيها موصدة فى وجهه .. فضلاً عن نفسه التى بين جنبيه التى أطبقت عليه هى الأخرى .
أى ابتلاء للإيمان أشد من هذا ؟
وأى جهاد للنفس أروع من هذا ؟
مثل هذا الإنسان فى مثل هذه الحالة التى صورها القرآن فى أجمل تعبير وأصدق بيان ..
لا حياة له .. إلا إذا بقيت فى نفسه .. رغم كل هذه الظروف نافذة واحدة مضيئة .. يشرق منها على قلبه خالق الأرض والسماء .. خالق النفسى .. خالق كل شئ.
هذه النفس التى تضيق على صاحبها وتعذبه وتؤنبه ربما تكون هى النفس اللوامة فى أشد صورها تعذيباً وتأنيباً وتأديباً حتى إذا فُتِحَتَ طاقات الرحمة ..
وأبواب الفرج من الله تعالى .. ارتقت هذه النفس اللوامة إلى حالة الرضى والسكينة والطمأنينة وصارت نفساً مطمئنة إلى صدق موعود الله .. واليقين به .. لأن الله تعالى شملها بفضله وعفوه وإحسانه ..
ولعل هذا ما توحى به الآيات التى صُدِرَت بقوله تعالى :
" لقد تاب الله على النبى .. والمهاجرين والأنصار
وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا .. "
فإذ دخل إنسان بعينه .. معرف بشخصه فى آيات تصدرتها التوبة على النبى صلى الله عليه وسلم فهل يتصور مؤمن أن يرجع الله فى فضل أعطاه وأنزله فى قرآن يتلى فى الصلاة وفى غير الصلاة يتردد على الشفاه إلى أن تقوم الساعة .
ـــــــــــــــ
إن الإنسان إذا تاب إلى الله بجرم جناه قد يسائل نفسه ..
هل قبل الله توبتى ؟
وكيف استيقن من هذا ؟
أما اذا قال الله تعالى فى قرآن مؤكداً
لقد تاب الله على .. فهذا شئ يقينى .. وعطاء إلهى ..
لا يُتَصَورَ من الله سحبه ..
ولعل هذا المعنى أو هذا الخاطر هو ما جعل الرسول يقول لكعب بن مالك
عند نزول هذه الآيات :
" أبشر يا كعب بخير يوم مرَّ عليك! "
فقد التحم ذكر هؤلاء الثلاثة بذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر الصحابة ..
رضوان الله عليهم أجمعين
بن مالك الخزرجى
أبشر .. يا كعب ..
بخير يوم مر عليك
ـــــــــــ
- هو كعب بن مالك بن أُبَى كعب :
جده أبو كعب: يسمى عمرو بن القين بن سواد بن غنم
ابن كعب بن سلمة بن سعد بن على ...
الأنصارى الخزرجى السلمى ..
كنيته : قيل : أبو عبد الله
وقيل : أبو عبد الرحمن .
أمه : ليلى بنت زيد بن ثعلبة ...
من بنى سلمة أيضاً
شهد العقبة ...
وشهد المشاهد كلها لم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فى غزوة بدر ، وغزوة تبوك .
- آخى الرسول عليه السلام بينه وبين طلحة بن عبيد الله حين آخى بين المهاجرين والأنصار .
- كان من شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم .
- رَوَىَ عنه :
- أبو جعفر محمد بن على
- وعمر بن الحكم بن ثوبان ..
- وغيرهما
مشهد العقبة :
خرج سبعون من مسلمى الأنصار مع منْ خرج من حجاج قومهم من أهل الشرك ومن هؤلاء السبعين رجلاً كان كعب بن مالك ..
وفى مكة واعدوا رسول الله على اللقاء فى العقبة من أوسط أيام التشريق .
كان يعتز بشهوده العقبة لأنها كانت بداية كرامتهم كأوائل المسلمين فى المدينة ... كما كانت بداية النصر لنبيه وإعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك والمشركين .
بايعهم الرسول يداً بيد وطلب منهم العودة إلى رحالهم ...
وسُمِع صارخ من رأس العقبة ينادى :
يا أهل الجباجب () ..
هل لكم فى مذمم() والصباه()
قد اجتمعوا على حربكم "
وبات كعب بن مالك ومن شهد العقبة فى رحالهم ... وفى الصباح غدت عليهم جلة من قريش قالوا لهم :
"يا معشر الخزرج .. بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا ..
تستخرجونه من بين أظهرنا ... وتبايعونه على حربنا
.. وإن أبغض شئ إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينكم .."
فأقسم لهم بعض مشركى المدينة الذين حضروا الحج معهم ولم يعلموا ببيعة العقبة .. أقسموا أن شيئاً من ذلك لم يحدث ..
واراد كعب بن مالك أن يغير اتجاه الحديث فقال لأحد المبايعين :- يا أبا جابر :-
" أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا
مثل الفتى القرشى المشار إليه وصاحب الحذاء هو :
الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومى
وسمع الحارث هذا القول فخلع حذاءه من رجليه ورمى بهما إلى كعب بن مالك .. مقسماً عليه بانتعالهما
قال أبو جابر لكعب بن مالك :
"أردد عليه نعله فقد أحفظته() "
قال كعب : والله لا أردهما ..
هذا والله فأل حسن
والله لئن صدق الفأل لأسلبنه ()
---
وفى أُحُد ..
قاتل كعب بن مالك فى أُحُد ولبس لأمة الرسول
ولبس الرسول عليه الصلاة والسلام لأمته (درعه)
وكان هو أول من عرف أن الرسول لم يقتل ..
وبشر المسلمين بسلامته .. مما أعاد إليهم الحمية وبث فى عروقهم ضراوة القتال .. والإصرار على حماية الرسول مهما كانت التضحيات .
قال كعب :
بعد أن قال الناس قُتِل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
رأيته وعرفته من عينيه .
" كانت عيناه تزهران وتضيئان من تحت المغفر"
فناديت بأعلى صوتى :
" يا معشر المسلمين ابشروا
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم "
فأشار إليه رسول الله أن أنصت فلما عرف المسلمون رسول الله نهضوا به .. ونهض معهم نحو الشعب .. ونهض معه أبو بكر الصديق ..عمر بن الخطاب .. على بن أبى طالب .. طلحة بن عبيد الله .. الزبير بن العوام رضوان الله عليهم جميعاً .. والحارث بن الصمه .. ورهط من المسلمين .
ولما أسند رسول الله عليه السلام فى الشعب ظن أُبَى بن خلف
أن الرسول قد أصبح فريسة سهلة له فى هذا الوقت
فأدرك الرسول وهو يقول :
“ أى محمد ، لا نجوت إن نجا “
وقد حقق الله لأبى بن خلف دعوته !
بأن أنجى الله رسوله ..
وتحقق عدم نجاة ابن خلف .. ألم يطلب هو ذلك
قال المسلمون المحيطون برسول الله صلى الله عليه وسلم
" أيعطف عليه رجل منا ؟ " يا رسول الله ؟
قال الرسول : دعوه ..
فلما دنى .. تناول رسول الله الحربة من الحارث بن الصمه وانتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء() عن ظهر البعير إذا انتفض بها ..
ثم استقبله فطعنه فى عنقه طعنه تدأدأ منها عن
فرسه مراراً .. وتقلب وجعل يتدحرج
أشهد أنه لا إله إلا الله .. وأنك رسول الله حقاً وصدقاً
أُبَى ابن خلف على فرسه بكامل عدته
وأنت يا رسول الله واقف على قدميك ..
فى حالة يعز على المؤمنين وصنعها لما كان بك من إصابات وجراحات ولكنك تقبل التحدى .. ولا تدع أحداً غيرك يتصدى له
رغم أن أى واحد ممن ثبتوا معك وكانوا حولك
كان قادراً بعون الله أن يجندله ويقتله ..
ولكنك أردت أن تثبت للجميع وعلى وجه اليقين كم كانت
شجاعتك حتى فى أشد حالات إصاباتك .. كما تثبت صدق نبوتك ورسالتك ..
ألم يكن يقول لك كلما يلقاك: "أنى سأقتلك يا محمد "
وكنت ترد عليه فى ثقة لا يحدها حد ..
"بل أنا إن شاء الله الذى يقتلك" .. وها قد فعلت .
وعادت الذاكرة بكعب بن مالك إلى سنوات مضت ..
إلى أول لقاء له برسول الله صلى الله عليه وسلم ..
كان ذلك قبيل بيعة العقبة .. رآه بالمسجد بمكة ..
كان معه البراء بن معرور ..
سألا رجلاً بمكة عنه فقال لهما : " تجدانه بالمسجد يجلس معه
دائماً عمه العباس بن عبد المطلب ..وكان العباس معروفاً لهم لكثرة تردده على يثرب وغيرها للتجارة ..
وهناك فى المسجد .. وفى حضرة النبى .. أسلموا ثم جلسوا
قال النبى للعباس : أتعرف من هذين الرجلين ؟
قال العباس :
نعم .. هذا البراء بن معرور سيد قومه . وهذا كعب بن مالك
قال الرسول : الشاعر ؟
قال العباس : نعم
يقول كعب : والله ما أنسى قول الرسول :
الشاعر ؟
اغتبط كعب أن الرسول يعرفه بشعره قبل أن يراه
ويتعرف عليه لأول مرة ..
كان الشعراء يتمتعون بشهرة عالية فى ذلك الزمان ...
لأنهم كانوا لسان حال القبائل المعبرين عن أفراحهم وأحزانهم ومفاخرهم ومعاركهم ..
كان الشعراء يقومون بدور يعادل دور أجهزة الإعلام كلها فى زماننا هذا ..
وأصبح كعب من شعراء الرسول منذ بيعة العقبة
بل منذ التفت إليه الرسول قائلاً :
كعب بن مالك الشاعر ؟
إذن عليه أن يتصدى بالسيف والرمح واللسان معاً لسيوف المشركين .. وألسنتهم مقاتلين وشعراء ..
عليه أن يعبر عن قيم الإسلام التى جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله ..
ويُظْهِرُ الفوارق بين الإسلام وظلام الشرك والإلحاد والجاهلية ..
المسلم يدافع عن الحق ويفخر بالموت فى سبيله لأنه يؤمن
أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون
أما المشركون فلا دافع لهم للقتال إلا الحمية الجاهلية ..
والنعرة القبلية المشحونة بالحقد والكراهية ..
تصدى لشاعر المشركين .. "هبيرة بن وهب" ووقف له بالمرصاد
قال هبيرة يناصر المشركين فى أحد .. ويوجه خطابه إلى هند
ما بال همٍّ عميدٍ بات يطرقنى ..
بالود من هند إذ تعدوا عواديها
باتت تعاتبنى هند وتعذلنى ..
والحرب قد شغلت عنى مواليها
مهلاً فلا تعذلينى إن من خلقى ..
ما قد علمت وما إنْ لست أخفيها
إلى آخر ما قال من شعر لا يستند إلى عقيدة قوية يزود عنها
ورد عليه كعب بن مالك .. ولا ينسى .. بل وكيف ينسى ..
أنه يدافع ويجالد عن عقيدة حتى لو فاتهم النصر فى بعض الأحيان لأسباب يجعلها الله تعالى عظة وعبرة ودرساً لهم فى مقبل الأيام
يقول كعب من قصيدة طويلة :
مجالدنا عن ديننا كل فخمة ()
مُدَرَّبَهّ فيها القوانيس تلمع
ويذكرهم ببدر فيقول :
ولكن ببدر سائلوا من لقيتم
من الناس والأنباء بالغيب تُسَمَعُ
وإنَّ بأرض الخوق لو كان أهلها
سوانا لقد أجلوا بليل وأقشعوا
نجالد لا تبقى علينا قبيلة
من الناس إلا أن يهابوا ويفظعوا
وفينا رسول الله نتبع أمره
إذا قال فينا القول .. لا نتطلع
تدلىَّ عليه الروح من عند ربه
يُنَزّلُ من جو السماء ويرفع
نشاوره فيما نريد وحسبنا
إذا ما اشتهى أنَّا نطيع ونسمع
وقال رسول الله لما بدوا لنا ..
ذروا عنكمُ هول المنيَّاتِ واطعموا
وكونوا كمن يشرى الحياة تقرباً
إلى ملك يحيا لديه .. ويرجع
ولكن خذوا أسيافكم وتوكلوا
على الله .. إن الأمر لله أجمع
ـــــــــــــــ
وهكذا نرى الفوارق الأساسية بين شعر المسلمين وشعر المشركين
شعراء المسلمين .. يؤمنون بالله تعالى وبرسوله .. يستندون إلى
عقيدة راسخة لديهم .. يعدون السلاح اللازم للمعركة ..
ويتوكلون على الله تعالى .. والنتيجة معروفة لديهم .. وهم يسعدون بها فى كل حال .. لأنها هى حصولهم على إحدى الحسنيين .. النصر أو الشهادة
إسلام دوس ...
وكان شعر كعب يدخل الرعب فى قولب المشركين
بما يحمله من إشارات القوة والإصرار على قتالهم حتى النصر ...
والخوف والرعب واحدٌ من جنود الله ..
شهره الله على لسان كعب بن مالك .. حتى لقد قيل إن "دوساً" أسلمت فَرَقَاً وخوفاً من قول كعب بن مالك حينما سمعت إنشاده :
قضينا من "تهامة" كل وتر
وخيبر ثم أغمدنا السيوف
نُخَيٍّرها .. ولو نطقت لقالت
قواطعهن "دوساً" أو " ثقيفاً "
أرأيت إلى هذا التهديد المخيف الذى أدخل الرعب فى قلبها
فقالت دوس : انطلقوا فخذوا لأنفسكم قبل أن ينزل بكم ما نزل بثقيف !
وحينما نزلت .
" والشعراء يتبعهم الغاوون "
ذهب شعراء الرسول الثلاثة إليه
إنهم كعب بن مالك ، وحسان بن ثابت ، وابن أبى رواحة
ذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يبكون ...
قال لهم الرسول :
ما الذى يبكيكم ..؟
قالوا : "هل نزلت فينا هذه الآية "
من القرآن الكريم : "لقد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء
قال الرسول عليه الصلاة والسلام :
فمن هم .. إلا الذين
"الذين أمنوا ؟ وعملوا الصالحات
هم أنتم ..
ومن هم ...ذكروا الله كثيراً
هم أنتم ..
ومن هم .. الذين انتصروا من بعد ما ظلموا ؟
هم أنتم ..
وسرى عنهم ما ألم بهم من حزن وجزع ..
ويمضى بنا ركب كعب حتى نصل إلى "تبوك"
ـــــــــــــــ
" تبوك "
مدينة على حدود الشام ..
بلغ النبى عليه السلام أن الروم تعد الجيوش لتغزوا بها حدود العرب الشمالية حتى تُوقِفُ زحف جحافل الجنود الإسلامية المناوئة لسلطان الروم فى الشمال وسلطان فارس فى الحيرة ..
وقرر النبى عليه السلام مواجهة هذه القوى بنفسه وأخذ سلاح المبادرة حتى يقضى على أى أمل يداعبهم فى غزو الجزيرة العربية أو التعرض للعرب فى بلادهم .
وأعلن الرسول عن عزمه على السير إلى " تبوك "
على غير عادته فى الغزوات الأخرى .. لبعد المسافة ومشقة السير.. وحتى يستكمل الجند معدات القتال ووسائل السفر والماء والمؤنة وأخطر جميع القبائل المشاركة فى هذا السير .. كما ابلغ أثرياء المسلمين يحثهم على المشاركة بأموالهم فى تجهيز الجيش الإسلامى الكبير ... ...
كشف النقاب :
بعد المسافة ... مشقة السفر .. الحر الشديد .. المخاطرة .. نفقات التجهيز ..
كل هذه العوامل أدت إلى كشف النقاب وإزاحة الستار عن قلوب المنافقين من جانب وعن المؤمنين الصادقين من جانب آخر ..
الجَدُ ابن قيس .. كان يمثل نموذجاً للمنافقين .
قال له الرسول :
" يا جد .. هل لك هذا العام فى قتال بنى الأصفر -أى الروم ؟ "
أجاب الجدى : أوتأذن لى يا رسول الله .. ولا تفتنى !
لماذا الفتنة يا جد الفسق والفجور !! ؟
هذا التساؤل لم يصدر عن رسول الله ..
ولكنى أتخيله من واقع إجابة هذا الجد"
قال جد : "فوالله لقد عرف قومى أنه
ما من رجل أشدُّ عجباً بالنساء منى !
وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر
ألا أصبر ! "
أرأيت إلى إجابة هذا الماجن ؟ وما بها من سوء أدب مع الرسول
ألا يستحق منا أن نصفه بما هو أشد
وكان السفر البعيد .. والحر الشديد لم يمنعه كل
ذلك من فضح نفسه ..
إنه يعتذر عن الذهاب وكأنه كان مدعوا إلى
حفل ساهر خصص للقاء نسوة بنى الأصفر .. !
ونزل القرآن الكريم بقوله تعالى :
" ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتنى
ألا فى الفتنة سقطوا
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين "
أرأيت إلى هنا الإعجاز الإلهى الذى يعطينا اللقطة
المعبرة والصورة البلاغية العالية الرفيعة فى إيجاز بليغ
لا يخل بما فى اعتذار "جد" بما لا يليق الاعتذار
فى مثل هذه الظروف
ومن قبل هذا كشف الله تعالى ما دار بين بعض المنافقين
وبعض من تثبيط الهمم والتعلل بالحر وشدته تبريراً
للقعود عن الجهاد .. ورد الله تعالى عليهم بأنه ليس أشد من حر نار جهنم فأنزل الله تعالى :
" وقالوا لا تنفروا فى الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلاً .. وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون" التوبة 81-822
أما جانب المؤمنين الصادقين فقد بذلك كل واحد منهم
أقصى ما يستطيع من مال .. ونفقة وسلاح ..
وبقى من المؤمنين الصادقين من لا يملك شيئاً ..
فذهبوا لرسول الله وقالوا له :
"احملنا فنحن لا نجد ما يحملنا "
وقال لهم رسول الله :
" وأنا لا أجد ما أحملكم عليه
فرجعوا باكين حزانى لعدم مشاركتهم فى هذا الجهاد
وقد سجل الله تعالى لهم هذا الموقف المؤثر الذى ينبئ
عن إخلاصهم العظيم لله ولرسوله وللإسلام
جاء ذلك فى قوله تعالى :
"ليس على الضعفاء ولا على المرضى
ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج .."
التوبة 91
" ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم
قلت لا أجد ما أحلكم عليه
تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً
ألا يجدوا ما ينفقون "
التوبة 92
وقد عُرِفَ هؤلاء منذ تلك اللحظة "بالبكائين" .
ـــــــــــــــ
جيش العسرة ..
تجهز جيش العسرة من ثلاثين ألفا من المسلمين .
يتقدمهم عشرة آلاف فارس ..
وقاد هذا الجيش الجرار نبى الله محمد صلى الله عليه وسلم
عابراً به الصحراء نحو الشمال ..
ما ذكرنا هو وصف لحالة الجيش الإسلامى وهو يستكمل استعداداته
بالمدينة ... ولكن ماذا لقى بعد أن غادر المدينة حتى وصل إلى "تبوك "..؟
لكى تبدو لنا الصورة واضحة من جميع الزوايا التى ننظر إليها منها فقد خرج الجيش إلى " تبوك " فى سنة مجدبة .
أصاب المسلمين فيها جهد شديد
من صور المشقة :
ذُكِرَ أن الرجلين كان يشقان التمرة الواحدة بينهما ...
وكان النفر يتداولون التمرة الواحدة بينهم .. يمصها هذا ..
ثم يشرب عليها .. ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها ..
وكان هذا ابتلاء شديداً من الله للمسلمين .
وقيل لعمر بن الخطاب حدثنا عن " تبوك " فقال :
خرجنا مع رسول الله إلى " تبوك " فى قيظ شديد فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع .. وحتى أن الرجل منا كان يذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع .. وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه .. ويجعل ما بقى على كبده ..
فقال أبو بكر الصديق :
يا رسول الله : إن الله عز وجل قد عودك فى الدعاء خيراً فادع لنا
قال الرسول : تحب ذلك ؟
قال : نعم
فرفع الرسول يديه فلم يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت
ثم سكنت .. فملؤا ما معهم .. ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر .
وكاد يشك البعض فى دينهم ويرتاب للذى نالهم من المشقة والشدة فى سفرهم وغزوهم ..
ثم أن الله تعالى رزقهم الإنابة إليه والرجوع إلى الثبات على الدين!.
قصدنا أن نقدم هذه الصورة عن جيش العسرة لنتعرف على شدة الابتلاء الذى قد يتعرض له المسلمون ..
ولا علاج له إلا الصبر والتمسك بحبل الله المتين حتى يقبل الله العفو ويرفع ما أنزل من ابتلاء .
نتعرف كذلك على مدى قدرة الرسول على التحمل والصبر فى جميع أحواله .. وحتى إنه لم يستسق إلا بعد أن طلب منه الصديق الاستسقاء استحياءً من الله تعالى .. وبعد أن أحس الرسول أن الصبر أوشك أن ينفد ممن معه .
نتعرف أيضاً على مدى المأزق الذى يواجه المتخلفين عن هذا الركب الذى يقوده رسول الله وكبار الصحابة وسائر المؤمنين الصادقين ..
ماذا يقول المتخلف عن هذه الغزوة للرسول ؟
وماذا عساه أن يقدم من أعذار ؟
وهل ينجو - رغم تخلفه - من مثل هذا الضيق الذى تقلب فيه المسلمون .
وأخيراً .. ماذا كان من أمر كعب بن مالك ؟
فلندعه هو يتحدث عن نفسه
...
قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله فى غزاة غزاها قط .. إلا فى غزاة "تبوك"
غير أنى كنت تخلفت فى غزاة بدر ..
ولم يعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً تخلف عنه فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
ولقد شهدت مع رسول الله ليلة العقبة حين تواثقنا وتعاهدنا على الإسلام ... وما أحب أن لى بها مشهد بدر .
وإن كانت بدر أذكر فى الناس منها وأشهر .
أسباب التخلف :
قال كعب : ..
" وكان من خبرى حين تخلفت ..
أنى لم أكن قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنه فى تلك الغزاة !
والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتها فى تلك الغزاة !
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى() بغيرها ..
حتى كانت تلك الغزوة ..
فغزاها رسول الله فى حر شديد ..
واستقبل سفراً بعيداً ، ومفاوز() .. وأستقبل عدواً كثيراً
فخَلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم
فأخبرهم وجهه الذى يريد ..
والمسلمون مع رسول الله كثير لا يجمعهم كتاب حافظ
( أى ديوان مسجلة فيه الأسماء )
قال كعب : فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحى من الله عز وجل .
وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت تلك الثمار والظلال وأنا إليها أصعر () .. فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه فطفقت أغدو لكى أتجهز معه .. فأرجع ولم أقض من جهازى شيئاً
فأقول لنفسى أنا قادر على ذاك إذا أردت
فلم يزل ذلك يتمادى بى .. حتى استمر بالناس الجد .
فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه ..
ولم أقض من جهازى شيئاً ..
وقلت أتجهز بعد يوم أو يومين ! ثم ألحقه
فغدوت بعد ما فصلوا () لأتجهز .. فرجعت ولم أقض من جهازى شيئاً ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً ..
فلم يزل ذلك يتمادى بى حتى أسرعوا .. وتفارط () الغزو فهممت أن أرتحل فألحقهم .. وليت أنى فعلت
ثم لم يٌقَدَّر ذلك لى ..
فطفقت إذا خرجت فى الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزننى أنى لا أرى إلا رجلاً مغموصاً ()عليه فى النفاق ..أو رجلاً ممن عذره الله عز وجل
متى ذكر الرسول كعب ؟
(لم يذكرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك)
فقال وهو جالس فى القوم بتبوك :
- ما فعل كعب بن مالك ؟
أجاب رجل من بنى سلمة :
حبسه يا رسول الله برداه .. والنظر فى عِطْفَيهِ!(أى التكبر والخيلاء)
فقال معاذ بن جبل للرجل :
بئسما قلت.. والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــ
العودة من تبوك :
قال كعب بن مالك :
لما بلغنى أن رسول الله قافل() حضرنى بثى()
وطففت أتذكر الكذب ..
وأقول : بماذا أخرج من سخطه غداً ..؟
وأستعين على ذلك بكل ذى رأى من أهلى ..
فلما قيل لى أن رسول الله قد أظل قادماً .. انزاح عنى الباطل
وعرفت أنى لم أنج منه بشئ أبدا .. فأجمعت صدقه ..
فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين .. ثم جلس للناس ..
فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون .. فطفقوا يحلفون له ويعتذرون إليه ..
وكانوا بضعة وثمانين رجلاً .. فيقبل منهم رسول الله علانيتهم .. ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى .
المواجهة :
جئت .. فلما سلمت عليه .. تَبَسَم .. تَبَسُمُ الغاضب
ثم قال لى : (تعال)
فجئت أمشى حتى جلست بين يديه
فقال لى : ما خلفك .. ؟
ألم تكن قد اشتريت ظهراً ؟
فقلت : يا رسول الله ..
إنى لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر ..
لقد أُعْطِيتُ جدلاً ..
ولكنى والله لقد علمت ..لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عنى ليوشكن الله أن يُسْخِطَكَ علىّ ..
ولئن حدثتك بصدق تجد() علىَّ فيه
إنى لأرجو عُقْبَىَ ذلك من الله عز وجل ..والله ما كان لى عذر ..
والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر منى حين تخلفت عنك
قال رسول الله : " أما هذا فقد صدق .. فقم حتى يقضى الله فيك "
فقمت .. وقام إلى رجال من بنى سلمة واتبعونى
فقالوا لى : والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا
ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر به المتخلفون ..
فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله لك
قال كعب : فوالله مازالوا يؤنبونى حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسى !
ثم قلت لهم : هل لقى معى هذا أحد ؟
قالوا : نعم .. لقيه معك رجلان .. قالا مثل ما قلت .. وقيل لهما مثل ما قيل لك
قلت : فمن هما ؟
قالوا : مرارة بن الربيع العامرى ، وهلال بن أمية الواقفى
فذكروا لى رجلين صالحين قد شهدا بدرا ..لى فيهما أسوة
فمضيت حين ذكروهما لى
ـــــــــــــــ
الأمر بالمقاطعة
قال كعب : ونهى رسول الله المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثة من بين من تخلف عنه
فاجتنبنا الناس .. وتغيروا لنا .. حتى تنكرت لى الأرض.
فما هى بالأرض التى كنت أعرف :
فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ..
- فأما صاحباى : فقد استكانا وقعدا فى بيوتهما يبكيان
- وأما أنا : فكنت أشد القوم وأجلدهم ..
فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين .. وأطوف بالأسواق فلا يكلمنى أحد
وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى مجلسه بعد الصلاة فأسلم .. وأقول لنفسى : أحرك شفتيه برد السلام علىّ أم لا .. ثم أصلى قريباً منه .. وأسارقه النظر.. فإذا أقبلت على صلاتى نظر إلىّ .. فإذا التفت نحوه أعرض عنى
كعب يتسور الحيطان !
قال كعب :
حتى إذا طال علىّ ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى أتيت وتسورت حائط أبى قتادة .. وهو ابن عمى وأحب الناس إلىّ .. فسلمت عليه !
فوالله مارد علىّ السلام فقلت له :
يا أبا قتادة .. أنشدك الله .. هل تعلم أنى أحب الله ورسوله ؟!
فسكت أبو قتادة ..فعدت له فنشدته الله .. فسكت
فعدت له فنشدته فسكت فقال :الله ورسوله أعلم ..
ففاضت عيناى .. وتوليت حتى تسورت الجدار .. فبينما أنا أمشى بسوق المدينة ..
ابتلاء آخر :
إذا أنا بنبطى من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول :
- من يدلنى على كعب بن مالك .. فطفق الناس يشيرون له إلىَّ ..
حتى جاء فدفع إلىّ كتاباً من ملك غسان .. وكنت كاتبا .. فإذا فيه :
أما بعد :
فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك وأن الله لم يجعلك فى درا هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك ..
فقلت حين قرأته : وهذا أيضاً من البلاء
فتيممت به التنور فسجرته به (أى ذهبت به إلى الفرن فأحرقته)
اعتزال الزوجة :
حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين ..
إذا برسول رسول الله يأتينى يقول :
يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتزل امرأتك
قلت : أطلقها ؟ أم ماذا أفعل ؟
قال : بل اعتزلها ولا تقربها
وأرسل إلى صاحبى بمثل ذلك
قلت لامرأتى : الحقى بأهلك .. فكونى عندهم حتى يقضى الله فى هذا الأمر ما يشاء
وجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله فقالت :
يا رسول الله :
إن هلالا شيخ ضعيف ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه ؟
قال الرسول : (لا .. ولكن لا يقربك)
قالت : (إنه والله ما به من حركة إلى شئ )
(وإنه والله مازال يبكى .. منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا)
قال لى بعض أهلى :
يا كعب : لو استأذنت رسول الله فى امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه
قلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدرى ما يقول فيها إذا استأذنته .. وأنا رجل شاب
ولبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة .. على ظهر بيت من بيوتنا ..
فبينا أنا جالس على الحال التى ذكر الله تعالى منا قد ضاقت علىَّ نفسى .. وضاقت علىَّ الأرض بما رحبت ..
سمعت صارخاً أوفى- قام - على جبل " سلع " يقول بأعلى صوته :
أبشر يا كعب بن مالك !
فخررت ساجداً .. وعرفت أنه قد جاء الفرج من الله عزّ وجل .. بالتوبة علينا فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر .
فذهب الناس يبشروننا .. وذهب قِبَل صاحبى مبشرون
وركض إلى رجل فرسا .. وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل ..
فكان الصوت أسرع من الفرس .. فلما جاءنى البشير الذى سمعت صوته ..
نزعت له ثوبى فكسوتهما إياه ببشارته ..
والله ما كنت أملك يومئذ غيرهما ..
واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وتلقانى الناس فوجاً فوجا .. يهنئونى بتوبة الله ..
يقولون : ليهنك توبة الله عليك .. حتى دخلت المسجد ..
فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فى المسجد والناس حوله .. فقام إلىَّ طلحة بن عبيد .. يهرول حتى صافحنى وهنأنى ..
والله ما قام إلى رجل من المهاجرين غيره .. فكنت لا أنساها لطلحة
قال كعب :
فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور
" أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك "
قلت : أمن عندك يا رسول الله ؟ أم من عند الله ؟
قال : " لا .. بل من عند الله "
قال كعب :
" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأن قطعة قمر حتى يُعْرَفَ ذلك منه "
فلما جلست بين يديه قلت :
" يا رسول الله .. إن من توبتى أن أتخلع من مالى صدقة إلى الله وإلى رسوله "
قال : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك "
قلت : " فإنى أمسك سهمى الذى بخيبر "
وقلت : يا رسول الله .. إنما نجانى الله بالصدق .. وإن من توبتى ألا أُحَدِثَ إلا صدقاً ما بقيت ..
قال كعب : فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق فى الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلانى الله تعالى والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومى هذا وإنى لأرجو أن يحفظنى الله فيما بقى ..
قال كعب : وأنزل الله تعالى :
" لقد تاب الله على النبى والمهاجرين والأنصار
الذين اتبعوه فى ساعة العسرة ..
من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم
ثم تاب عليهم أنه بهم رءوف رحيم
وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى
إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت
وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه
ثم تاب عليهم ليتوبوا .. أن الله هو التواب الرحيم
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين "
إلى آخر الآيات ..
قال كعب : فوالله ما أنعم الله علىَّ من نعمة قط
بعد أن هدانى للإسلام .. أعظم فى نفسى من صدقى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أن لا أكون كذبته فأهلك .. كما أهلك الذين كذبوه
فإن الله تعالى قال للذين كذبوه حين أنزل الوحى شر ما قال لأحد ..
فقال تعالى :
" سيحلفون بالله لكم اذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم ..
فأعرضوا عنهم إنهم رجس
ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون
يحلفون لكم لترضوا عنهم
فإن ترضوا عنهم ..فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين"
وبالتأمل فى الآيات البيانات السابقة ..
تنبعث فى النفس هذه الخواطر ..
إن الله تعالى سخط على فريق المنافقين ..
وما صدر عنهم فى غزاة (تبوك) سخطاً شديداً وتوعدهم بالعذاب
لم يقبل أعذارهم الكاذبة التى قبلها منهم الرسول ولم يقبل استغفار الرسول لهم ..
الذى قبل منهم ما أظهروه .. وترك سرائرهم إلى الله تعالى ولعل هذا الرفق من الرسول بهم فى هذا الموقف هو الذى عاتبه الله عليه.
" لقد تاب الله على النبى "
الفريق الآخر .. يشمل المهاجرين والأنصار
من ضاق منهم بالحر اللافح .. والماء الذى كانوا يعتصرونه من فرث رواحلهم والظمأ الذى يكاد يقطع الرقاب كما حدث عمر بن الخطاب إلى آخر ما كان من شدة البلاء والعناء ولكن قلوبهم ظلت على إيمانهم الراسخ العميق ..
وفريق آخر من المهاجرين والأنصار ظل على إيمانه وإن راود قلوبهم شئ من الشك لقسوة الموقف الذى عاشوا فيه .
والفريق الثالث هم على التحديد : الثلاثة الذين خُلِّفوا
ولقد تاب الله على الجميع .. تاب الله على النبى .. وعلى المهاجرين والأنصار ..
وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا
هؤلاء الثلاثة تاب الله عليهم لصدقهم
فيما أخبروا به الرسول صلى الله عليه وسلم رغم تخلفهم بلا عذر .
والنص القرآنى يقول :
" الذين خُلًّفوا " ولم يقل " الذين تخلفوا "
أى الذين تركوا دون الفصل فى أمرهم حتى يفصل الله فيهم عاقبهم الرسول على التخلف بإصدار أمره لجميع المسلمين بالمدينة بمقاطعتهم ..
وعقوبة (المقاطعة الجماعية) مع ترك الإنسان حراً يذهب حيث يشاء دون أن يحادثه أحد ..أو يعيره التفاتاً .. هى عقوبة إسلامية لا نظير لها استمرت المقاطعة خمسين يوماً ..
وتشير الآيات إلى أنهم لقوا من الإبتلاءات والشدة والآلام والضيق طوال هذه المدة ما يعجز عنه الوصف بغير ما جاء فى القرآن الكريم ..
إن ما عاناه مؤمنوا جيش العسرة كان معاناة مادية لا يستهان بها .
أما ما عاناه كعب بن مالك وصاحباه ..
فكان شيئاً آخر غير مادى .. كان عذاباً مسلطاً على نفوسهم وأرواحهم
ولنا أن نتخيل إنسانا ضاق به بيته .. ضاق به طريقه .. ضاق به بلده ..
ضاقت عليه الأرض كلها بسمائها .. بهوائها .. بأناسها .. بأشجارها .. بطيورها .. بأزهارها
ضاقت عليه بما رحبت !
كما جاء فى التعبير القرآنى المعجز
فما عاد شئ يدخل البهجة والسرور على القلب الحزين المقرور ..
فإذا هرب مما يحيط به .. وكيف له ذلك ..
وعاد إلى نفسه متأملاً يتلمس فى جوانبها الفرار مما حوله طلباً لشئ من راحة أو سكينة .. ضاقت عليه نفسه ..
يا الله .. أى عذاب هذا ؟!
لقد صارت الأرض كل الأرض بما فيها ومن فيها موصدة فى وجهه .. فضلاً عن نفسه التى بين جنبيه التى أطبقت عليه هى الأخرى .
أى ابتلاء للإيمان أشد من هذا ؟
وأى جهاد للنفس أروع من هذا ؟
مثل هذا الإنسان فى مثل هذه الحالة التى صورها القرآن فى أجمل تعبير وأصدق بيان ..
لا حياة له .. إلا إذا بقيت فى نفسه .. رغم كل هذه الظروف نافذة واحدة مضيئة .. يشرق منها على قلبه خالق الأرض والسماء .. خالق النفسى .. خالق كل شئ.
هذه النفس التى تضيق على صاحبها وتعذبه وتؤنبه ربما تكون هى النفس اللوامة فى أشد صورها تعذيباً وتأنيباً وتأديباً حتى إذا فُتِحَتَ طاقات الرحمة ..
وأبواب الفرج من الله تعالى .. ارتقت هذه النفس اللوامة إلى حالة الرضى والسكينة والطمأنينة وصارت نفساً مطمئنة إلى صدق موعود الله .. واليقين به .. لأن الله تعالى شملها بفضله وعفوه وإحسانه ..
ولعل هذا ما توحى به الآيات التى صُدِرَت بقوله تعالى :
" لقد تاب الله على النبى .. والمهاجرين والأنصار
وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا .. "
فإذ دخل إنسان بعينه .. معرف بشخصه فى آيات تصدرتها التوبة على النبى صلى الله عليه وسلم فهل يتصور مؤمن أن يرجع الله فى فضل أعطاه وأنزله فى قرآن يتلى فى الصلاة وفى غير الصلاة يتردد على الشفاه إلى أن تقوم الساعة .
ـــــــــــــــ
إن الإنسان إذا تاب إلى الله بجرم جناه قد يسائل نفسه ..
هل قبل الله توبتى ؟
وكيف استيقن من هذا ؟
أما اذا قال الله تعالى فى قرآن مؤكداً
لقد تاب الله على .. فهذا شئ يقينى .. وعطاء إلهى ..
لا يُتَصَورَ من الله سحبه ..
ولعل هذا المعنى أو هذا الخاطر هو ما جعل الرسول يقول لكعب بن مالك
عند نزول هذه الآيات :
" أبشر يا كعب بخير يوم مرَّ عليك! "
فقد التحم ذكر هؤلاء الثلاثة بذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر الصحابة ..
رضوان الله عليهم أجمعين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق