الصديق
أبو بكر الصديق
هل لك يا أبا بكر فى صاحبك ؟
يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة ..؟
ـــــــــــــــ
فما يعجبكم من ذلك ؟
إنه ليخبرنى الخبر يأتيه من السماء
إلى الأرض فى ساعة من ليل
أو نهار فأصدقه
فهذا أعجب مما تعجبون منه
والله لئن كان قال لقد صدق
أبو بكر الصديق
عبد الله بن أبى قحافة
اسمه : عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب ابن تيم بن مرة
أمه : أم الخير
اسمها : سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرة
أمه ابنة عم أبيه (أبى قحافة)
أولاده : 1- عبد الله
2- أسماء ذات النطاقين:
3- عبد الرحمن
4- عائشة
أمهما: أم رومان بنت عامر بن عوير ابن عبد شمس بن عتاب بن أذينه ..
5- محمد … وأمه أسماء بنت عميس بن معد بن تيم
6- أم كلثوم .. وأمها حبيبة بنت خارجة .. بن الخزرج وكانت بها نسأ فلما توفى أبو بكر ولدت بعده
ـــــــــــــــــ
أختلف فى اسمه :
- فقيل : كان عبد الكعبة فسماه رسول الله : عبد الله
- وقيل : إن أهله سموه : عبد الله
- يقال له عتيق .. وقيل سبب هذه التسمية : لحسن وجهه وجماله
لأنه لم يكن فى نسبه شئ يعاب به
لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له :
" أنت عتيق من النار " عتيق الله من النار
وقيل له الصديق :
عن عائشة قالت :
" لما أسرى بالنبى صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح بذلك يحدث الناس ..
فارتد ناس ممن كان آمن وصدق به وفُتِنُوا
فقال أبو بكر : إنى لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك
أصدقه بخبر السماء غدوة غدوة أو روحه "
فلذلك سمى أبو بكر الصديق
وقال أبو محجن الثقفى :
وسميت صديقاً وكل مهاجر
سواك يسمى باسمه غير منكر
سبقت إلى الإسلام والله شاهد
وكنت جليساً فى العريش المشهر
ـــــــــــــــــ
إسلامه
أسلم أبو بكر رضى الله عنه فأظهر إسلامه ودعا إلى الله ورسوله
وكان أبو بكر رجلاً مألفا لقومه .. سهلا .. محببا
كان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها
وبما كان فيها من خير وشر ..
وكان تاجراً ذا خلق ومعروف
وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لأكثر من أمر
لعلمه وتجارته .. وحسن معاملته ومجالسته
فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه.. ممن يغشاه ويجلس إليه
وعن أسماء بنت أبى بكر قالت :
" أسلم أبى أول المسلمين .. ولا والله ما عقلت أبى إلا وهو يدين الدين
وقالت عائشة رضى الله عنها :
" ما عقلت أبوى إلا وهما يدينان الدين ..
وما مر علينا يوم قط إلا ورسول الله يأتينا فيه بكرة وعشية ..
وقال رجل لبلال :
من سبق ؟ قال : محمد
قال : من صلى ؟ قال : أبو بكر
قال الرجل : إنما أعنى فى الخيل
قال بلال : إنما أعنى فى الخير
من أسلم من الصحابة بدعوة أبى بكر
أسلم عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس
وأسلم الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد
وأسلم عبد الرحمن بن عوف
وأسلم سعد بن أبى وقاص
وأسلم طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب
فجاء بهم أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا
الإسلام بلا تردد :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة (أى تأخير فى الإجابة) ونظر وتردد إلا ما كان من أبى بكر بن أبى قحافة
ما عكم عنه حين ذكرته له ، وما تردد فيه "
وذكر ابن الأثير …
قال أبو بكر الصديق :
" كنت جالساً بفناء الكعبة ، وكان زيد بن عمرو بن نفيل قاعدا فمر به أمية بن أبى الصلت فقال :
كيف أصبحت يا باغى الخير ؟
قال : بخير … قال : هل وجدت ؟
قال : لا ، ولم آل من طلب
فقال : أى أمية بن أبى الصلت
كل دين يوم القيامة إلا
ما قضى الله والحنيفة بورُ
أما إن هذا النبى الذى ينتظر منا أو منكم أو من أهل فلسطين
قال : أى أبو بكر
ولم أكن سمعت قبل ذلك بنبئ ينتظر أو يبعث فخرجت أريد ورقة بن نوفل..
وكان كثير النظر فى السماء .. كثير همهمة الصدر
فاستوقفته ثم اقتصصت عليه الحديث
فقال : نعم يا ابن أخى ..
أبىَ أهل الكتاب والعلماء إلا أنه هذا النبى الذى يُنْتَظَرُ من أوسط العرب نسباً.. ولى علم بالنسب وقومك أوسط العرب نسبا ..
قلت : يا عم .. وما يقول النبى ؟
قال : يقول . ما قيل له .. إلا أنه لا ظلم ولا تظالم
فلما بُعِثَ النبى صلى الله عليه وسلم آمنت
رواية أخرى فى إسلام أبى بكر وأنه كان أول من أسلم
عن عبد الله بن مسعود قال :
قال أبو بكر الصديق :
إنه خرج إلى اليمن قبل أن يبعث النبى صلى الله عليه وسلم
فنزل على شيخ من الأزد عالم قد قرأ الكتب ..
وعَلِمَ من ِعلم الناس كثيرا
يقول أبو بكر .. فلما رآنى قال :
أحسبك حِرميا ؟
قال أبو بكر قلت : نعم .. أنا من أهل الحرم
قال : وأحسبك قرشياً ؟
قال أبو بكر قلت : نعم أنا من قريش
قال : وأحسبك تيميا ؟
قال : قلت : نعم .. أنا من تيم بن مرة ..
أنا عبد الله بن عثمان ..
من ولد كعب بن سعد بن تيم بن مرة ..
قال : بقيت لى فيك واحدة
قلت : ما هى ؟
قال : تكشف عن بطنك
قلت : لا أفعل أو تخبرنى لم ذاك ؟
قال : أجد فى العلم الصحيح الصادق .. أن نبياً يُبْعَثُ فى الحرم
يعاون على أمره .. فتى وكهل
فأما الفتى فخواض غمرات ودفَّاع معضلات وأما الكهل فأبيض نحيف ، على بطنه شامة وعلى فخذه اليسرى علامة ..
وما عليك أن ترينى ما سألتك ..
فقد تكاملت لى فيك الصفة إلا ما خفى على
قال أبو بكر :
فكشفت له عن بطنى ..
فرأى شامة سوداء فوق سرتى
فقال : أنت هو ورب الكعبة .. وإنى متقدم إليك فى أمر فاحذره
قال أبو بكر قلت :
وما هو ؟
قال : إياك والميل عن الهدى
وتمسك بالطريقة المثلى الوسطى ..
وخف الله فيما خولك وأعطاك .
قال أبو بكر :
فقضيت باليمن أربى .. ثم أتيت الشيخ لأودعه .
فقال : أحامل عنى أبياتاً من الشعر قلتها فى ذلك النبى ؟
قلت : نعم
فذكر أبياتاً
قال أبو بكر :- فقدمت مكة وقد بُعِثَ النبى صلى الله عليه وسلم فجاءنى عقبة ابن أبى معيط .. وشيبه .. وربيعة … وأبو جهل .. وأبو البخترى .. وصنادير قريش ..
فقلت لهم : هل نابتكم نائبة .. أو ظهر فيكم أمر ؟
قالوا : يا أبا بكر .. أعظم الخطب :
يتيم أبى طالب يزعم أنه نبى ولولا أنت ما انتظرنا به ..
فإذ قد جئت .. فأنت الغاية والكفاية
قال أبو بكر :
فصرفتهم على أحسن مسٍّ ..
وسألت عن النبى فقيل : فى منزل خديجة فقرعت عليه الباب .. فخرج إلىّ
فقلت : يا محمد :-
فقدت من منازل أهلك .. وتركت دين آبائك وأجدادك ؟
قال : يا أبا بكر :
إنى رسول الله إليك وإلى الناس كلهم .. فآمن بالله
فقلت : ما دليلك على ذلك ؟
قال : الشيخ الذى لقيتَ باليمن .
قلت : وكم من شيخ لقيت باليمن ؟
قال الشيخ الذى أفادك الأبيات
قلت : ومن خبرك بهذا يا حبيبى ؟
قال الملك المعظم: الذى يأتى الأنبياء قبلى .
قلت : مدَّ يدك ..
فأنا أشهد أن لا إله إلا الله .. وإنك رسول الله ..
قال أبو بكر :
فانصرفت وما بين لابتيها () أشد سروراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامى ..
وعن الشعبى قال : سألت ابن عباس : من أول من أسلم ؟
قال : أبو بكر : أما سمعت قول حسان
إذا تذكرت شجوا من أخى ثقة .. فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلاً
خير البرية اتقاها وأعدلها .. بعد النبى وأوفاها بما حملا
الثانى التالى المحمود مشهده .. وأول الناس طُرَّا صدَّق الرسلا
وروى أن عمرو بن عبسة سُمع يقول :
ألقى فى روعى أن عبادة الأوثان باطل فسمعنى رجل وأنا أتكلم بهذا فقال :
يا عمرو ، بمكة رجل يقول كما تقول ..
قال : فأقبلت إلى مكة أسأل عنه ..
فأُخبرِتُ أنه مختف لا أقدر عليه إلا بالليل يطوف بالبيت ..
فقمت بين الكعبة وأستارها ..
فما علمت إلا بصوته يهلل بالله ..
فخرجت إليه فقلت :-
ما أنت ؟ قال : رسول الله
فقلت : وبم أرسلك ؟
قال : أن يُعْبَدَ الله ولا يُشْرَكَ به شئُ .. وتحقن الدماء .. وتوصل الأرحام
قلت : ومن معك على هذا ؟
قال : حر وعبد
فقلت : أبسط يدك أبايعك . فبسط يده فبايعته
فلقد رأيتنى وإنى لرابع الإسلام
ـــــــــــــــــ
هذه الروايات السابقة ترسم لنا صورة عن أبى بكر الصديق الذى كان من رؤساء قريش فى الجاهلية .. الرجل المحبب فيهم والمألف لهم والذى كان إليه أمر الإشناق (أى الدِّيات) فى الجاهلية ، فكان إذا حمل شيئاً صدقته قريش وامضوا حمالته () وحمالة من قام معه ..
وإن احتملها غيره خذلوه .. ولم يصدقوه
فهو لدى قريش وثيق صدوق ..
وهو إلى جانب ذلك تاجر يتنقل على نطاق واسع فى رحلات الشتاء والصيف بين الشام واليمن مما زاده خبرة فى التعامل مع الناس ومعرفة طبائعهم وأخلاقهم ..
ثم هو صديق حميم لمحمد تزداد صداقتهما يوم بعد يوم لما يجمع بينهما من صفات مشتركة عمادها الصدق والأمانة والثقة وعدم الميل إلى ما كان يدفع غيرهم للهوى فى منحدرات هوى النفس ولملذات الجاهلية
صديق لمحمد لم يعهد عليه كذباً ولا زيفاً ولا خُلِقاً منحرفاً .. وقد أخبره صديق الصدوق الذى شهد له الجميع بالصدق – بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى وقت انتشرت فيه البشائر أنه آن الأوان لظهور نبى يدعوا إلى الحق ولا يدعو إلى الظلم .
دعوة تتفتح لها القلوب السليمة وتصل إلى قلوب البعض قبل أن يبعث النبى الجديد كما وصلت إلى قلب زيد بن عمرو بن نكيل وورقة بن نوفل وعمرو بن عبسة السلمى وحتى أمية بن أبى الصلت الذى آمن شعره ولم يؤمن قلبه فلماذا لا يصل إلى قلب أبى بكر ما وصل إلى قلوب هؤلاء الناس وما الذى لا يحعلنا نقابل بالتصديق ما جاء عنه فى الروايات السابقة ..
إن مثل أبى بكر لحرى به أن يبادر إلى الإسلام فور العلم به من محمد الذى تجمعت به كل الصفات السامية النبيلة والتى التقت فى الوقت المناسب مع القلب المتفتح لقبول هذه الأخلاق لأن به الكثير مما يماثلها ..
وكان ذلك القلب هو قلب أبى بكر الصديق رضى الله عنه .
عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ليلة أُسْرِىَ به :
قلت لجبريل إن قومى لا يصدقونى "
فقال له جبريل :
يصدقك أبو بكر وهو الصديق حتى فى هذا الحدث الذى لم تستوعبه بعض قولب من أسملوا .. وارتد عن الإيمان .. استوعبه قلب أبى بكر
ذهب الناس إلى أبى بكر فقالوا له :
- هل لك يا أبا بكر فى صاحبك ..
يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة ..
قال أبو بكر لهم ليستكشف حقيقة نواياهم :-
إنكم تكذبون عليه
فقالوا : بلى ها هو ذاك فى المسجد يحدث به الناس فلما تأكد أنهم لا يخفون خديعة .. رد على الفور ودون أن يذهب إلى محمد ويسمع من فمه شيئاً قال لهم مقسماً بالله :
والله لئن كان قاله لقد صدق .. فما يعجبكم من ذلك
فوالله أنه ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من السماء
إلى الأرض فى ساعة من ليل أو نهار فأصدقه فهذا أعجب مما تعجبون منه..
أرأيت إلى قلب أبى بكر .. و إلى تمكن الإيمان وتغلغله فيه
ومنطقه الإيمانى البسيط السليم ..
لم يكن منطق أبى بكر محتاجاً إلى تبريرات معاوية ابن أبى سفيان .. أو غيره وصولاً إلى عهدنا الحاضر …
جاء فى سيرة ابن هشام ما يسمى بحديث معاوية
قال ابن اسحق :
وحدثنى يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس :
أن معاوية بن أبى سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
قال : كانت رؤيا من الله تعالى صادقة ..
ومن قبله حديث منسوب لأم المؤمنين عائشة
قال ابن اسحق :
وحدثنى بعض آل أبى بكر
(ولم يذكر ابن اسحق من هو الذى حدث عن عائشة)
" ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الله أسرى بروحه"
ـــــــ
إن إيمان أبى بكر تجاوز وتخطى كل هذه المبررات ووضع أساساً للإيمان : قاعدة بسيطة تؤكد على أن الإسراء كان بالجسد والروح
ولنتأمل فى إجابة الصديق :
" إنه ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض فى ساعة من ليل أو نهار فأصدقه .. فهذا أعجب مما تعجبون منه " !
إن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض ..
وليس من مكة إلى بيت المقدس فقط ..والساعة لا تعنى ما نقيس به نحن الزمن .
ولكنها تعنى اللحظة التى ينزل فيها جبريل عليه السلام بالوحى ..
حينما نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى مثلاً :
" قد سمع الله قول التى تجادلك فى زوجها
وتشتكى إلى الله .. والله يسمع تحاوركما …… "
هل يتصور عاقل أن سماع الله تعالى لهذا التحاور وأمره تعالى بنزول جبريل بالحكم قد أخذ وقتاً .. يقدر بالساعات .. أو بالدقائق .. أو بالثوانى..!!
إن جميع مخلوقات الله .. بالنسبة لله تعالى هى أشياء داخلة تحت سلطان :
كن فيكون ..
ومن هنا جاء منطق أبى بكر الإيمانى حاسماً فى القضية ..
إن الله القادر على إنزال جبريل من السماء بالأمر الإلهى فى لحظة لا يعلم قصرها غير الله .. أو قل على الحقيقة فى لا زمن
لقادر على أن يُصعد محمداً إلى السماء .. ويعيده إلى حيث كان فى لا زمن أيضاً هذا هو المنطق الإيمانى لأبى بكر الذى إذا وُزِنَ به إيمان الأمة لرجحها ..
ومن العجيب أن نظل نحن فى عصر العلم الذى منحنا الله فيه القدرة على كشف أشياء ما كان من قدماء أن يكتشفوها فى حينها ..
لازلنا نثير هذه القضية . مع أنها ليست قضية فى الحقيقة ونقول :
هل كان الإسراء للجسد والروح أم كان رؤيا منامية
والمشكلة الحقيقية أننا نتخيل ونقيس قدرات الله تعالى بقدرتنا البشرية ..
المتغيرة تقدما أو انحطاطاً وهذا خطأ جسيم يؤدى إلى نتائج خاطئة تضعف الإيمان .
ارتفع أبو بكر الصديق على هذا المنطق الإنسانى العاجز ..
واتسع قلبه الممتلئ بالإيمان إلى التصديق غير المحدود وبدون السؤال عن الكيفية بقدرة الله تعالى ..
فأَمِنَ الزلل .. وسَلِمَ من الوقوع فى الشك .. الذى يُدْخِل الريبة على العقيدة نفسها ..
عجيب أن نفكر هذا التفكير غير الإيمانى .. ولا نسأل أنفسنا فى عصرنا الحاضر ..
كم يستغرق السفر من مكة إلى بيت المقدس فى زماننا ..؟
وما الزمن الذى تستغرقه الصواريخ العابرة للقارات والصاعدة إلى القمر .. وإلى .. وإلى .. إلخ ؟
وتتوقف القلوب .. وتتجمد العقول .. عندما يكون الأمر متعلقاً بقدرات الله تعالى .. !
ونحسب أننا بعقولنا العاجزة القاصرة نُقَدِمُ ما نحسبه تسهيلاً على الله وتيسيراً لمنطقه وأحكامه وأوامره .. ونعوذ بالله من ذلك ..
كل هذه الهواجس لم تخطر ببال أبى بكر لأنه سبق وآمن بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم .. مبلغاً عن ربه القادر ..
وتضوء قلبه وتلألأ بهذا الإيمان الصافى النقى ولن تبقى فيه ذرة شك .
فقال بحسم : ( إن كان قال فقد صدق) .
الهجرة :
كان أبو بكر كثيراً ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول له :
لا تعجل يا أبا بكر .. لعل الله يجعل لك صاحباً فيطمع أبو بكر أن يكون هو صاحب رسول الله فى هجرته ..
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ..
بعد أصحابه من المهاجرين .
عدم الإعلان عن هجرة الرسول :
لماذا لم يعلن الرسول عن اليوم الذى سيهاجر فيه ؟
لا يخطر ببال أحد أن عدم الإعلان عن موعد الهجرة يقلل أو يمس شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كان أبو بكر لم يستطع أن يقدم على الهجرة إلا بعد استئذان الرسول . فكيف يخرج الرسول مهاجراً .. دون أن يستأذن ربه ويأذن له ؟
بل إن أقصى الشجاعة أن يبقى رسول الله فى مكة بعد أن هاجر معظم أصحابه ..
ولم يبق معه أحد بمكة إلا على بن أبى طالب وأبو بكر الصديق ومن حُبِسَ أو فُتِنَ من المسلمين .. هذا هو غاية التحدى لقد سَهُلَ الأمر على المشركين. هدفهم المحدد هو الرسول .. ومكانه معروف وعليهم أن يفكروا مطمئنين إلى التخلص منه ومن هنا تظهر الشجاعة وتظهر المعجزات التى يريد الله إظهارها ..
ولو تمكنوا من القضاء على محمد صلى الله عليه وسلم فإن المسلمين الذين خرجوا من مكة مهاجرين لم يستطيعوا العودة إليها ثانياً إلا مهانين مفتونين بعد تقديم فروض الطاعة والولاء لقريش ولديانتها وأصنامها ..
فإن الدعوة تكون فى بدايتها بلا محمد أى بلا داعيه.
هذا ما فكر فيه الكافرون المشركون. أو هو الإغراء الذى وُضِعَ لهم..
وأراد الله تعالى أن يظهر عجزهم ويبطل مكرهم وتدبيرهم لعلهم يرجعون عن عنادهم فيؤمنون بالله وبالنبى الذى أرسلهم إليهم ..
فإن أَبَوْا إلا الكفر فإن ما حبط من تفكيرهم وتدبيرهم سيدفع غيرهم إلى الإيمان بالله تعالى واحتقار صناديد قريش من عبدة الأصنام والأوثان ..
ـــــــ
ثم هناك ملمح أخر يفيد فى تأخر الرسول فى الهجرة عن سائر المهاجرين .
إنه يمثل القائد الملتحم بجنوده الذى لا يتركهم من خلفه للأعداء لا يشاركهم آلامهم ..والمتاعب التى يواجهونها ويخرج هو إلى الجهة الآمنة التى أخذ عليها العهد ألا يسلمونه لشئ أبدا ..
ولكنه أخذ بيعة العقبة الأولى والثانية ليكون المهاجرون الأوائل آمنين على حياتهم بالمدينة أما هو كقائد فإنه بقى بمكة ليحافظ على جنوده وأتباعه . ويضرب لهم المثل فى القدوة وفى تحمل أذى المشركين .
فهو إذن أول مَنْ يواجه العدو ..
وآخر من ينصرف عنه بعد أن يطمأن على سلامة جميع أفراد جنوده!
وهكذا نرى تأخير هجرة الرسول ومعه أبو بكر وعلى .. هو قمة الشجاعة والتضحية والفداء ..
لقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يضع لمن معه ومن يجئ بعده أولى مبادئ الجهاد الحق وشرف الجندية .
تآمر قريش :
وهكذا ذهبت قريش للتشاور والتآمر بدار الندوة وتواعدوا على اللقاء فى يوم سموه يوم الرحمة ..
فاعترضهم إبليس فى هيئة شيخ جليل عليه بتله ( كساء غليظ) فوقف على باب الدار . فلما رأوه قالوا له :
من الشيخ ؟
قال : شيخ من أهل نجد ..
سمع بما تواعدتم عليه فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحاً
قالوا : أجل ، فادخل ..
ونظر بعضهم إلى بعض يقولون :
حسن إنه ليس من أهل تهامة .. فإن هوى أهل تهامة مع محمد ..
وتمتم الشيطان قائلاً ..
نعم .. من نجد التى قال محمد :
" منها يطلع قرن الشيطان "
فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش ..
- من بنى عبد شمس :-
عتبة بن ربيعة – وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب ..
ومن بنى نوفل بن عبد مناف :-
طعيمة بن عدى وجبير بين مطعم وحارث بن عامر بن نوفل
- ومن بنى عبد الدار بن قصى :-
النضر بن الحارث بن كلدة
ومن بنى أسد بن عبد المعزى : -
أبو البخترى بن هشام .. وزمعة بن الأسود بن المطلب .. وحكيم بن حزام
ومن بنى مخزوم : أبو جهل بن هشام
ومن بنى سهم : نبيه ومنبه ابنا الحجاج
ومن بنى جمح : أمية بن خلف
ومن كان معهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش ولنا أن نتأمل فى وجوه هؤلاء وغيرهم ..
لنعرف أهمية هذا الاجتماع وما أعدَّ له من قيادات مشركة ناقمة على محمد صلى الله عليه وسلم ..
قال بعضهم لبعض :
إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم ..
فإن والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا فأَجمِعُوا فيه رأياً
فتشاوروا .. ثم قال قائل منهم :
-: احبسوه فى الحديد .. وأغلقوا عليه بابا ..
ثم تربصو به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله .. زهيراً والنابغة .. ومن مضى منهم من هذا الموت .. حتى يصيبه ما أصابهم
قال الشيخ النجدى :
لا والله .. ما هذا لكم برأى
والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذى أغلقتم دونه إلى أصحابه .. فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينزعوه من أيديكم .. ثم يكاثروكم به .. حتى يغلبوكم على أمركم ..
ما هذا لكم برأى .. فانظروا فى غيره ؟!
فتشاوروا .. ثم قال قائل منهم :
نخرجه من بين أظهرنا .. فننفيه من بلادنا ..
فإذا خرج عنا فو الله ما نبالى أين ذهب ولا حيث وقع !
إذا غاب عنا .. وفرغنا منه .. فأصلحنا أمرنا .. وأُلْفَتِنا كما كانت ..
قال الشيخ النجدى : لا والله .. ما هذا لكم برأى ..
ألم تروا حسن حديثه ؟ وحلاوة منطقه ؟
وغلبته على قلوب الرجال ؟ بما يأتى به ؟
والله لو فعلتم ما أمنتم أن يحل على حى من أحياء العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه ..
ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم فى بلادكم
فيأخذ أمركم من أيديكم .. ثم يفعل بكم ما أراد ..
دبروا فيه رأياً غير هذا .
فقال أبو جهل بن هشام :
والله إن لى فيه لرأيا .. ما أراكم وقعتم عليه بعد ..
قالوا : وما هو يا أبا الحكم
قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسبياً وسيطاً فينا ..
ثم نعطى كل فتى منهم سيفاً صارماً ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك .. تفرق دمه فى القبائل جميعاً ..
فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً. فإذا رضوا منا ( بالعقل ) أى بالدية فعقلناه .. أى دفعنا ديته استرحنا منه ..
قال الشيخ النجدى :
القول ما قال الرجل .. هذا الرأى الذى لا رأى غيره
واجتمع الشباب الجليد النسيب .. الوسيط فيهم .. اجتمعوا بسيوفهم المنتقاة على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرصدونه متى ينام .. فيثبون عليه وثبة رجل واحد ..
ــــــــــــــ
وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه .. فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو :
" يس والقرآن الحكيم . إنك لمن المرسلين
على صراط مستقيم . تنزيل العزيز الرحيم " ..
إلى قوله تعالى : - " فأغشيناهم فهم لا يبصرون "
حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الآيات ولم يبق منهم رجل إلا قد وضع على رأسه تراباً ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب ..
فآتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال :
: ما تنتظرون ها هنا ؟
قالوا : محمداً
قال : خيبكم الله .. قد والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه تراباً وانطبق لحاجته ..
أما ترون ما بكم ؟
فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب
ـــــــــــــــ
أرأيت أى خيبة أمل .. وأى ذل وهوان وازدراء لَحِقَ بكل هؤلاء المشركين الشياطين .. المجتمعين بقيادة كبيرهم .. إبليس اللعين والذى نسى ما سبق أن أفصح به أمام رب العالمين :
"ولأغوينهم أجمعين .. إلا عبادك منهم المخلصين "
ولم يسأل نفسه : ما موقع محمد من هؤلاء المخلصين .
وإن لم يكن محمد منهم .. فمن يكون سواه ؟!
ـــــــــــــــــــــ
بكاء أبو بكر لشرف الصحبة
عن عائشة أم المؤمنين قالت :
كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتى ببيت أبى بكر أحد طرف النهار إما بكرة وإما عشية ..
حتى إذا كان اليوم الذى أُذِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة والخروج من مكة من بين ظهرى قومه .
آتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة .. فى ساعة كان لا يأتى فيها
فلما رآه أبو بكر قال :
ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا لأمر قد حدث فلما دخل .. تأخر له أبو بكر عن سريره ..
فجلس .. ليس عند أبى بكر إلا أنا وأختى أسماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَخرِج عنى من عندك "
فقال أبو بكر :
إنما هما ابنتاى ، وما ذاك ؟ فداك أبى وأمى .
قال : إن الله قد أذن لى فى الخروج والهجرة
قال أبو بكر : والصحبة يا رسول الله ؟
قال الرسول : والصحبة
قالت عائشة أم المؤمنين :
فو الله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكى من الفرح ..حتى رأيت أبا بكر يومئذ ثم قال :
يا نبى الله .. إن هاتين راحلتان ..قد كنت أعددتهما لهذا
ــــــــــــــ
فاستأجرا عبد الله بن أريقط . .. رجلاً من بنى الدثل ابن بكر وكانت أمه امرأة من بنى سهم بن عمرو وكان مشركاً يدلهما على الطريق ..
فدفعا إليه راحلتيهما .. فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما .
ــــــــــــــ
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته
مهاجراً إلى الله تعالى والله مؤيده وناصره ومطمئنه .. فقد ضرب على أبصار المحيطين ببيته فما رأوه وهو يشق طريقه إلى خارج الدار وينثر على رءوسهم التراب والغبار وكأنه يقول لهم :
التفتوا إلى هذه المعجزة .. أنتم بشبابكم .. وقوتكم .. وكثرتكم .. وأسلحتكم .. وسيوفكم .. تحيطون بالدار .. لا تدعون منفذا لداخل أو خارج ..تستهدفون فرداً واحداً داخل الدار .. وتزمعون قتله بضربة رجل واحد
ليضيع دمه بين القبائل .. وهو لم يؤذِ أحداً منكم .. ولم تعرفوا عنه إلا الصدق والأمانة .. و ها هو ذا داخل هذه الدار ورغم كل هذه الاحتياطات التى أنتم عليها .. فقد خرج من بينكم .. لا تدرون كيف .. وهو ليس بساحر ولا شاعر
ولكنه رسول الله وخاتم النبيين .. فالتفتوا إلى هذه المعجزة ..وتأملوا كيف تمكن من اختراق هذا الحصار المسلح لعلكم تتعرفون على الحق .. وتتركون ما أنتم عليه من الباطل ..
ــــــــــ
لقد ترك الرسول ما ترك على رءوسهم فى شجاعة وثقة بالله تعالى ..
فهو لم يزل بمكة ولم يخرج بعد منها .
والتراب المنثور على رءوسهم يشير إلى غفلتهم والسخرية منهم مما يدفعهم – إن لم يؤمنوا ..
إلى مزيد من الغيظ والحِنق والسعى الحاقد إلى الإمساك بهم قبل أن يفلت منهم ويغادر مكة ولكن أنى لهم هذا ..
والله تعالى هو الذى أذن له بالهجرة .. لنشر الدعوة فى مكان آخر..
ورغم هذه الثقة بالله تعالى التى لا حد لها فلابد من الأخذ بالأسباب
.. لماذا ؟ لأن الأخذ بالأسباب .. عمل بشرى والتأييد الإلهى .. مشيئة إلهية
ولابد للإنسان من تقديم العمل ..
وبذل الجهد قدر استطاعته ليحصل على التأييد الإلهى
" إن تنصروا الله ينصركم "
ومحمد صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء وخاتمهم .. وهو الذى يتلقى الوحى عن الله تعالى ويبلغه للناس ولا وحى بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى فكيف يترك أمته بعده دون أن يرشدها إلى كيفية مواجهة المشكلات والعمل على حلها بالتفكر السليم والتخطيط الرشيد .. ليكونوا أهلاً لنصرة الله تعالى ..
وحتى يكون لهم التقدير والتوقير والاحترام فى المجتمعات التى تعيش معهم أو تعيش من حولهم ..
فيرى فيهم من يعيش معهم فى الداخل .. ومن يتعامل معهم فى الخارج ..
أنهم أهل للتقدم والريادة لأنفسهم ولغيرهم .. وأنهم أرباب حضارة وقيادة ..
التخطيط للهجرة :
لكل ما سبق نجد الرسول عليه السلام بحث أمر الهجرة .. من جميع جوانبه .. ووضع المبادئ الآتية :
رد الودائع :
لم يكن أحد بمكة عنده شئ يخشى عليه إلا وضعه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يعلم من صدقه وأمانته ..
والعجيب أن أعداء رسول الله والمتربصين به لقتله لم يلتفتوا إلى هذا الخلق الكريم الذى يحرص على المحافظة على الأمانات المودعة لديه حتى فى أشد المواقف فقد ترك الرسول عليه السلام "على بن أبى طالب" وأمره أن يبقى بعد هجرته ليرد الأمانات إلى أصحابها ! فهذا مبدأ إسلامى لا تجوز مخالفته تحت أى ظرف من الظروف ومها كان موقف أصحابها منه
التكتم الشديد :
استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان
فلم يعلم بمخبئهما فى الغار غير عبد الله بن أبى بكر وأختيه عائشة وأسماء ومولاهم عامر بن مهيرة
ومع عناية الله .. خرج الرسول عليه السلام من بيته فى الثلث الأخير من الليل إلى دار أبى بكر ..
وخرج من دار أبى بكر هو والصديق من خوخة (فتحة صغيرة) فى ظهر الدار فى موعد غير مألوف .
سار أيضاً فى طريق غير معتاد لأنه متيقن من أنهم سيقتفون أثره ..
فانطلقوا جنوباً إلى غار ثور ..
كما لو كان متجهاً نحو " اليمن " ليعمى عليهم طرق البحث عنه إذ أن هذا الإتجاه لم يكن يرد على البال ..
قام بتوزيع الأدوار على المتعاونين معه .
فقد عمدا إلى غار ثور – جبل أسفل مكة – فدخلا فيه …
وأسند إلى عبد الله بن أبى بكر أن يتْسَمَعَ ما يقوله الناس فيهما طول النهار بمكة ..
ثم يأتيهما فى المساء بما يكون فى ذلك اليوم من الخبز
وأسند إلى عامر بن فهيرة أن يرعى الغنم بالنهار ثم يريحها عليهما ..
فيحتلبا حاجتهما من اللبن ... ويذبحا
وإذا عاد عبد الله بن أبى بكر من عندهما تبعه
عامر بالغنم فعفى على آثاره ومحى أثار أقدامه
أقاما بالغار ثلاثة أيام .. وكانت أسماء بنت أبى بكر تأتيهما بالطعام
إذا أمست بما يصلحهما
فلما مضت الأيام الثلاثة ..
ويئست قريش من معرفة مكانهما أو العثور عليهما ..
وسكنت حركة البحث عنهما
أتاهما صاحبهما الذى استأجراه .. ببعير لهما وبعير له ..
ذات النطاقين :-
وأتتهما أسماء بنت أبى بكر بما يتودان به فى سفرهما ..
ونسيت أن تأتى بما يربط به على فم المزادة ليحفظ ما فيها ( العصام)
فلما ارتحلا ذهب لتعلق السفرة أو المزادة أو الوعاء الذى فيه الطعام فلم تجد الحبل الذى يعلق به وهو ما يسمى بالعصام .
فحلت نطاقها فجعلته عصاماً .. ثم علقتها به
فسمين منذ ذاك الحين بــ " ذات النطاقين " .. لأنها شقت نطاقها باثنين .. ،..
علقت زاد السفر بواحد وانتطقت بالآخر
ـــــــــ
فدائية أبى بكر رضى الله عنه
حينما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلاً ..
دخل أبو بكر قبل رسول الله يتلمس ما فى الغار ويستكشف ليفدى بنفسه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ما كان فى الغار ما يُعَرِضُ الرسول للأذى كسبع أو حية أو أى شئ آخر خطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما اطمأن إلى سلامة الغار من الداخل دخل الرسول بعده ..
اللحظات الرهيبة ..
فى أثناء الأيام الثلاثة بالغار ..
لم تكف قريش عن البحث عنهما وطلبهما لضيقهما من إفلات الرسول من بين أيديهما رغم محاصرته فى بيته وتضييق الحصار عليه ..
ثم إفلاتهما معاً هو وصاحبه بخروجهما معاً مهاجرين لاستكمال العدة فى بلد آخر آمن لهما هو "يثرب" .
ـــــــــــــــ
أبو جهل وأسماء :
حدثت بنت أبى بكر قالت :
لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضى الله عنه .. آتانا نقر من قريش .. فيهم أبو جهل بن هشام
فوقفوا على باب أبى بكر .. فخرجت إليهم فقالوا :
أين أبوك يا بنت أبى بكر ؟
قالت أسماء : لا أدرى والله أين أبى ؟
قالت : فرفع أبو جهل يده .. وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدى لطمة طرح منها قرطى .
ـــــــــــــ
وما فعله أبو جهل إنما يدل على مدى غيظه من إفلات محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه للمرة الثانية من بيت أبى بكر ..
هذا الغيظ الذى يدل على مدى ما كان يعانيه من وقع هذا الفشل على نفسه والذى جعله يفقد السيطرة على نفسه ويلطم فتاة لا أحد معها فى ذلك الوقت يدافع عنها .. ولطمها يعتبر سبة فى جبين رجولته .. حتى فى عهد الجاهلية !
كيف يفلت هذه المرة أيضاً .. والطريق إلى يثرب وأحد .. ؟
وها هم أولاء فتيان قريش ، من كل بطنٍ رجل يدورون باحثين منقبين فى كل اتجاه يحملون الأسياف والعُصِى والهِرواتِ لينقضوا بها على هذا على هذا الرجل الأعزل من أى سلاح هو وصاحبه .
وأراد الله تعالى هذه المرة أيضاً .. أن يصفع كبرياءهم ويخزيهم فيعودوا مطأطتأةً رءوسهم يجرون أذيال الخيبة والفشل.
معجزة الغار :
رأى فتيان قريش راعياً على مقربة من غار ثور فسألوه .. فكان جوابه
- قد يكونان بالغار … وإن كنت لم أر أحداً أمّه !
يا لقدرة الله .. ويا للموقف الرهيب الذى وجد أبو بكر نفسه فيه ويا لليقين الإلهى ..
والثقة الربانية التى أودعها الله تعالى بقلب محمد صلى الله عليه وسلم ..
أقبل بعض القرشيين يتسلقون إلى الغار ثم عاد أحدهم أدراجه فسأله أصحابه :-
مالك لم تنظر فى الغار ؟
قال : إن عليه العنكبوت من قبل ميلاد محمد وقد رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار فعرفت أن ليس أحداً فيه ..
ولنتخيل مقدار الرعب والخوف فى قلب صاحب محمد أبى بكر الصديق .. لخوفه على صاحبه وحبيبه .
- وعلى الرسول والرسالة ..
هذه الحالة الرهيبة التى كان عليها أبو بكر صورها فى هذه الكلمات القليلة الهامسة :
" لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا "
ولنتصور مقدار فزعه .. لو حدث وتمت هذه الرؤية ولكن الرسول الذى كان فى حالة من اليقين لا يعرف حقيقتها إلا الله واهبها .. وقلب رسوله الذى كان مستقراً ومستودعاً لهذا اليقين ..
" لا تحزن .. إن الله معنا ما أظنك باثنين الله ثالثهما "
أى شرف يصل إلى هذا المدى الذى وصل إليه أبو بكر بفضل صحبته للرسول صلى الله عليه وسلم
شرف (معية الله ..) !! … شرف (اثنان الله ثالثهما) !!
ما هذه السماوات وهذه الارتقاءات التى ترفع الله إليها أبا بكر .. وأية درجة تلك ..
ومَنْ يجرؤ على القول أنه يشاركه فيها من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ألست هى الدرجة التى جعلت رسول الله يصمم على ألا يؤم المسلمين أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر .
أليست هى درجة الصديقية التى تفرد أبو بكر بالوصول إلى أعلى درجاتها ومرتقياتها والتى كان يراها الرسول فى إمامة المسلمين فى الصلاة : الصلاة التى صعد الرسول من أجلها إلى أعلى عليين ليرجع الرسول بفرضيتها على جميع المسلمين وبالطريق المباشر بين رب العزة ورسوله دون وساطة جبريل عليه السلام ! كبير الملائكة أجمعين !
وعاد فتيان قريش ..
وهاهم أولاء ينسحبون بعيداً عن الغار فى بطء وتثاقل وزادهم اقتناعاً ..
أن رأوا الشجرة تدلت فروعها إلى فوهة الغار ولم يجدوا فى نفوسهم من القناعة ما يجعلهم يزيلون هذه الفروع !
عاد فتيان قريش يجرون أذيال الفشل والخيبة للمرة الثانية أو الثالثة ..
يسترجعون المشاهد التى مرت بهم ..
عجزهم عن الإمساك به فى بيته ..
عجزهم عن القبض عليهم وعلى صاحبه فى بيت أبى بكر
عجزهم وفشلهم فى معرفة المكان الذى يختبئ فيه وهم يقفون على بابه!
ولو نظر أحدهم تحت قدميه لرآهم على تعبير أبى بكر الصديق
ولم يعتبروا .. ولم يلتفتوا إلى هذه العناية التى أحاط الله بها رسوله ..
بأى دافع ؟ .. أهو الكبر ؟
أهو انغلاق صدورهم على الكفر مما حجب نور الإيمان .. وحال بينه وبين الدخول إلى هذه القلوب القاسية الجاحدة لآيات الله
تلك الآيات التى يرونها رأى العين .
" إنهم لا يكذبونك .. ولكن الطاغين بآيات الله يجحدون "
إنه الله الذى أعماهم عنه فى كل مرة كان يبدوا فيها وكأنه بين أيديهم .. ولا منقذ له ولا مهرب منهم .. لكنه كان ينجو .. بطريقة تزيد المؤمنين بالله إيماناً .. تزيد الكافرين كفراً وجحوداً .
وهذه هى الخاصية العجيبة التى أودعها الله تعالى فى قرأنه الكريم فقال :
" قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء والذين لا يؤمنون
فى آذانهم وقر وهو عليهم عمى .." فصلت /44
سجل الله تعالى فى قرأنه الموقف فى الغار بقبوله :
" إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا
ثانى اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه
لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه
وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا
السفلى وكلمة الله هى العليا والله عزيز حكيم "
التوبة 40
ـــــــــــــــ
أرأيت هذا الحشد الهائل من جنود الله وهل كان لفتيان قريش .. أو لأى أحد آخر أن يخترق هذا الحشد ويصل إلى رسول الله وصاحبه ..
إن العنكبوت الذى نسج ما نسج على الغار ، واليمامتين الوحشيتين اللتين باضتا ببابه! أو لم تبض ، والشجرة التى دلت فروعها إلى الباب !
هذه صور مرئية شاهدها فتيان قريش وكانت قابلة للرؤيا لأى أحد يقف هناك وينظرا إليها لكن الله تعالى لم يكتف بهذا ولكنه قال :
" وأيده بجنود لم تردها "
فما هى هذه الجنود غير المرئية إن الله جعل لنا فيما نراه ..
دليل صدق على مالا نراه ويخبرنا به سبحانه وتعالى لأن نجاة الرسول وصاحبه لم تكن مرهونة بخيط من خيوط العنكبوت ولا بحمامتين .. ولا بفروع شجرة وبدون هذه الأشياء الظاهرة لم يكن أحد بقادر على أن يمس رسول الله وصاحبه بسوء وإنما رُسِمت وجُعِلت هذه الأشياء الضعيفة الهيئة لتهوين أقدار هؤلاء الذين يطاردون الرسول صلى الله عليه وسلم ..
فأقدارهم وعيونهم وقوتهم غير قادرة على أن تدرك من وراء هذه الستائر الشفافة الضعيفة الواهنة ..
فما أوهنهم على الله تعالى ..
ويقول " درمنجم " المستشرق
" هذه الأمور الثلاثة هى وحدها المعجزة التى يقص التاريخ الإسلامى الجد :
نسيج العنكبوت ، وهَوى حمامة ونماء شجيرة وهى أعاجيب ثلاث لها كل يوم فى أرض الله نظائر .
:- يذكر أن هذه الأمور الثلاثة هى وحدها المعجزة ! فهل يا ترى وصل هذا المستشرق إلى ما وراء هذه المظاهر الثلاث التى لها كل يوم فى أرض الله نظائر فهل وصل إلى ما ليس له فى أرض الله نظائر والذى أخفاه الله تعالى وذكره فى قوله: .. وأيده بجنود لم تروها "
أم أنه توقف عند هذه الأشياء فقط ولم يتأمل فيما هدأ بعد منها .
ــــــــــــــ
يمامة الغار
وكانت يمامة الغار مبعث إعجاب شديد كإحدى جنود الله عز وجل فكانت مصدر هذه الأبيات أخاطبها بها رغم مضى كل هذه السنون :
يمامة الغار قلبى نهر أسئلة
فهل أصادف فى عينيك شطآنا ؟
يمامة الغار من أوصاك أن تقفى
ببابه حارسا للحب يقظانا
آما رأيت جنود الشرك قد وفدوا
والحقد أضرم فى الأحشاء نيرانا
وأزمعوا القتل .. ما لانت عزيمتهم
وأنت بالباب ما أزمعت هجرانا
هل قلت للظلم إن الحق منتصر
حتى ولو كان يبدو أعزلا آنا
هل كنت أول من فى الطير صدقه
فجئت تعطينه عهدا وبرهانا ؟!
أم كنت أخت أبى بكر مرافقة
أم كنت فى رقة الإحساس عثمانا ؟!
أم جئت تفدينه بالروح .. يا عجبا
أيعرف الطير الاستشهاد أحيانا
أم أنت حين رأيت الغار فوهة
حشوت نفسك بارودا ودخانا
أم أنت لما رأيت الغار مزدلفا
ما عدت تخشين إنسيا ولا جانا
يمامة الغار لو أعطيت أجنحة
لجئت أهديك فوق السحب شكرانا
كنت الوفاء الذى غابت ملاحمه
كنت الإخاء الذى ننساه نسيانا
كنت التحدى اله الكون صوره
فى لوحة حية بالباب إعلانا
فكيف نجهل ما صورت من قصص
وكيف نجحد ما قدمت نكرانا
وكيف ننسى أياديك التى سلفت
جزاك ربى على الإحساس إحسان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق