ly

Translate

احشروا الذين كفروا الصافات

{22} احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ
هُوَ مِنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ : " اُحْشُرُوا " الْمُشْرِكِينَ " وَأَزْوَاجهمْ " أَيْ أَشْيَاعهمْ فِي الشِّرْك , وَالشِّرْك الظُّلْم ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " إِنَّ الشِّرْك لَظُلْمٌ عَظِيم " [ لُقْمَان : 13 ] فَيُحْشَر الْكَافِر مَعَ الْكَافِر ; قَالَهُ قَتَادَة وَأَبُو الْعَالِيَة . وَقَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : " اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجهمْ " قَالَ : الزَّانِي مَعَ الزَّانِي , وَشَارِب الْخَمْر مَعَ شَارِب الْخَمْر , وَصَاحِب السَّرِقَة مَعَ صَاحِب السَّرِقَة . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : " وَأَزْوَاجهمْ " أَيْ أَشْبَاههمْ . وَهَذَا يَرْجِع إِلَى قَوْل عُمَر . وَقِيلَ : " وَأَزْوَاجهمْ " نِسَاؤُهُمْ الْمُوَافِقَات عَلَى الْكُفْر ; قَالَهُ مُجَاهِد وَالْحَسَن , وَرَوَاهُ النُّعْمَان بْن بَشِير عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب . وَقَالَ الضَّحَّاك : " وَأَزْوَاجَهُمْ " قُرَنَاءَهُمْ مِنْ الشَّيَاطِين . وَهَذَا قَوْل مُقَاتِل أَيْضًا : يُحْشَر كُلّ كَافِر مَعَ شَيْطَانه فِي سِلْسِلَة .
{23} مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ
أَيْ مِنْ الْأَصْنَام وَالشَّيَاطِين وَإِبْلِيس .
{23} مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ
أَيْ سُوقُوهُمْ إِلَى النَّار . وَقِيلَ : " فَاهْدُوهُمْ " أَيْ دُلُّوهُمْ . يُقَال : هَدَيْته إِلَى الطَّرِيق , وَهَدَيْته الطَّرِيق ; أَيْ دَلَلْته عَلَيْهِ . وَأَهْدَيْت الْهَدِيَّة وَهَدَيْت الْعَرُوس , وَيُقَال أَهْدَيْتهَا ; أَيْ جَعَلْتهَا بِمَنْزِلَةِ الْهَدِيَّة .
{24} وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ
وَحَكَى عِيسَى بْن عُمَر " أَنَّهُمْ " بِفَتْحِ الْهَمْزَة . قَالَ الْكِسَائِيّ : أَيْ لِأَنَّهُمْ وَبِأَنَّهُمْ , يُقَال : وَقَفْت الدَّابَّة أَقِفُهَا وَقْفًا فَوَقَفَتْ هِيَ وُقُوفًا , يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى ; أَيْ اِحْبِسُوهُمْ . وَهَذَا يَكُون قَبْل السَّوْق إِلَى الْجَحِيم ; وَفِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير , أَيْ قِفُوهُمْ لِلْحِسَابِ ثُمَّ سُوقُوهُمْ إِلَى النَّار . وَقِيلَ : يُسَاقُونَ إِلَى النَّار أَوَّلًا ثُمَّ يُحْشَرُونَ لِلسُّؤَالِ إِذَا قَرُبُوا مِنْ النَّار .
{24} وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ
عَنْ أَعْمَالهمْ وَأَقْوَالهمْ وَأَفْعَالهمْ ; قَالَهُ الْقُرَظِيّ وَالْكَلْبِيّ . الضَّحَّاك : عَنْ خَطَايَاهُمْ . اِبْن عَبَّاس : عَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه . وَعَنْهُ أَيْضًا : عَنْ ظُلْم الْخَلْق . وَفِي هَذَا كُلّه دَلِيل عَلَى أَنَّ الْكَافِر يُحَاسَب . وَقَدْ مَضَى فِي [ الْحِجْر ] الْكَلَام فِيهِ . وَقِيلَ : سُؤَالهمْ أَنْ يُقَال لَهُمْ : " أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُل مِنْكُمْ " [ الْأَنْعَام : 130 ] إِقَامَة لِلْحُجَّةِ . وَيُقَال لَهُمْ :

الصافات

{25} مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ
عَلَى جِهَة التَّقْرِيع وَالتَّوْبِيخ ; أَيْ يَنْصُر بَعْضكُمْ بَعْضًا فَيَمْنَعهُ مِنْ عَذَاب اللَّه . وَقِيلَ : هُوَ إِشَارَة إِلَى قَوْل أَبِي جَهْل يَوْم بَدْر : " نَحْنُ جَمِيع مُنْتَصِر " [ الْقَمَر : 44 ] . وَأَصْله تَتَنَاصَرُونَ فَطُرِحَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا . وَشَدَّدَ الْبَزِّيّ التَّاء فِي الْوَصْل .
{26} بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ
قَالَ قَتَادَة : مُسْتَسْلِمُونَ فِي عَذَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . اِبْن عَبَّاس : خَاضِعُونَ ذَلِيلُونَ . الْحَسَن : مُنْقَادُونَ . الْأَخْفَش : مُلْقُونَ بِأَيْدِيهِمْ . وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب .
{27} وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ
يَعْنِي الرُّؤَسَاء وَالْأَتْبَاع
{27} وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ
يَتَخَاصَمُونَ . وَيُقَال لَا يَتَسَاءَلُونَ فَسَقَطَتْ لَا . النَّحَّاس : وَإِنَّمَا غَلِطَ الْجَاهِل بِاللُّغَةِ فَتَوَهَّمَ أَنَّ هَذَا مِنْ قَوْله : " فَلَا أَنْسَاب بَيْنهمْ يَوْمئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 101 ] إِنَّمَا هُوَ لَا يَتَسَاءَلُونَ بِالْأَرْحَامِ , فَيَقُول أَحَدهمْ : أَسْأَلُك بِالرَّحِمِ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنك لَمَا نَفَعْتنِي , أَوْ أَسْقَطْت لِي حَقًّا لَك عَلَيَّ , أَوْ وَهَبْت لِي حَسَنَة . وَهَذَا بَيِّن ; لِأَنَّ قَبْله " فَلَا أَنْسَاب بَيْنهمْ " [ الْمُؤْمِنُونَ : 101 ] . أَيْ لَيْسَ يَنْتَفِعُونَ بِالْأَنْسَابِ الَّتِي بَيْنهمْ ; كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث : ( إِنَّ الرَّجُل لَيُسَرُّ بِأَنْ يُصْبِحَ لَهُ عَلَى أَبِيهِ أَوْ عَلَى اِبْنه حَقّ فَيَأْخُذهُ مِنْهُ لِأَنَّهَا الْحَسَنَات وَالسَّيِّئَات ) , وَفِي حَدِيث آخَر : ( رَحِمَ اللَّه اِمْرَأً كَانَ لِأَخِيهِ عِنْده مَظْلِمَةٌ مِنْ مَال أَوْ عِرْض فَأَتَاهُ فَاسْتَحَلَّهُ قَبْل أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ فَيَأْخُذ مِنْ حَسَنَاته فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَات زِيدَ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَات الْمُطَالِب ) . و " يَتَسَاءَلُونَ " هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ أَنْ يَسْأَل بَعْضهمْ بَعْضًا وَيُوَبِّخهُ فِي أَنَّهُ أَضَلَّهُ أَوْ فَتَحَ لَهُ بَابًا مِنْ الْمَعْصِيَة ; يُبَيِّن ذَلِكَ أَنَّ بَعْده " إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِين "
{28} قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ
قَالَ مُجَاهِد : هُوَ قَوْل الْكُفَّار لِلشَّيَاطِينِ . قَتَادَة : هُوَ قَوْل الْإِنْس لِلْجِنِّ . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل الْأَتْبَاع لِلْمَتْبُوعِينَ ; دَلِيله قَوْله تَعَالَى : " وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْد رَبّهمْ يَرْجِع بَعْضهمْ إِلَى بَعْض الْقَوْل " [ سَبَأ : 31 ] الْآيَة . قَالَ سَعِيد عَنْ قَتَادَة : أَيْ تَأْتُونَنَا عَنْ طَرِيق الْخَيْر وَتَصُدُّونَنَا عَنْهَا . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس نَحْو مِنْهُ . وَقِيلَ : تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِين الَّتِي نُحِبّهَا وَنَتَفَاءَل بِهَا لِتَغُرُّونَا بِذَلِكَ مِنْ جِهَة النُّصْح . وَالْعَرَب تَتَفَاءَل بِمَا جَاءَ عَنْ الْيَمِين وَتُسَمِّيهِ السَّانِح . وَقِيلَ : " تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِين " تَأْتُونَنَا مَجِيء مَنْ إِذَا حَلَفَ لَنَا صَدَّقْنَاهُ . وَقِيلَ : تَأْتُونَنَا مِنْ قِبَل الدِّين فَتُهَوِّنُونَ عَلَيْنَا أَمْر الشَّرِيعَة وَتُنَفِّرُونَنَا عَنْهَا . قُلْت : وَهَذَا الْقَوْل حَسَن جِدًّا ; لِأَنَّ مِنْ جِهَة الدِّين يَكُون الْخَيْر وَالشَّرّ , وَالْيَمِين بِمَعْنَى الدِّين ; أَيْ كُنْتُمْ تُزَيِّنُونَ لَنَا الضَّلَالَة . وَقِيلَ : الْيَمِين بِمَعْنَى الْقُوَّة ; أَيْ تَمْنَعُونَنَا بِقُوَّةٍ وَغَلَبَة وَقَهْر ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " فَرَاغ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ " [ الصَّافَّات : 93 ] أَيْ بِالْقُوَّةِ وَقُوَّة الرَّجُل فِي يَمِينه ; وَقَالَ الشَّاعِر : إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ أَيْ بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَة . وَهَذَا قَوْل اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ مُجَاهِد : " تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِين " أَيْ مِنْ قِبَل الْحَقّ أَنَّهُ مَعَكُمْ ; وَكُلّه مُتَقَارِب الْمَعْنَى .
{29} قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ
قَالَ قَتَادَة : هَذَا قَوْل الشَّيَاطِين لَهُمْ . وَقِيلَ : مِنْ قَوْل الرُّؤَسَاء ; أَيْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ قَطُّ حَتَّى نَنْقُلَكُمْ مِنْهُ إِلَى الْكُفْر , بَلْ كُنْتُمْ عَلَى الْكُفْر فَأَقَمْتُمْ عَلَيْهِ لِلْإِلْفِ وَالْعَادَة .
{30} وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ
أَيْ مِنْ حُجَّة فِي تَرْك الْحَقّ
{30} وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ
أَيْ ضَالِّينَ مُتَجَاوِزِينَ الْحَدّ .
{31} فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ
هُوَ أَيْضًا مِنْ قَوْل الْمَتْبُوعِينَ ; أَيْ وَجَبَ عَلَيْنَا وَعَلَيْكُمْ قَوْل رَبّنَا , فَكُلّنَا ذَائِقُونَ الْعَذَاب , كَمَا كَتَبَ اللَّه وَأَخْبَرَ عَلَى أَلْسِنَة الرُّسُل " لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم مِنْ الْجِنَّة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ " [ السَّجْدَة : 13 ] . وَهَذَا مُوَافِق لِلْحَدِيثِ : ( إِنَّ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ كَتَبَ لِلنَّارِ أَهْلًا وَلِلْجَنَّةِ أَهْلًا لَا يُزَاد فِيهِمْ وَلَا يُنْقَص مِنْهُمْ ) .
{32} فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ
أَيْ زَيَّنَّا لَكُمْ مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْر
{32} فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ
بِالْوَسْوَسَةِ وَالِاسْتِدْعَاء .
{33} فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ
الضَّالّ وَالْمُضِلّ .
{34} إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ
أَيْ مِثْل هَذَا الْفِعْل
{34} إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ
أَيْ الْمُشْرِكِينَ .
{35} إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ
أَيْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ قُولُوا فَأَضْمَرَ الْقَوْل . وَ " يَسْتَكْبِرُونَ " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى خَبَر كَانَ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي مَوْضِع رَفْع عَلَى أَنَّهُ خَبَر إِنَّ , وَكَانَ مُلْغَاة . وَلَمَّا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِب عِنْد مَوْته وَاجْتِمَاع قُرَيْش ( قُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه تَمْلِكُوا بِهَا الْعَرَب وَتَدِين لَكُمْ بِهَا الْعَجَم ) أَبَوْا وَأَنِفُوا مِنْ ذَلِكَ . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى فِي كِتَابه فَذَكَرَ قَوْمًا اِسْتَكْبَرُوا فَقَالَ : " إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه يَسْتَكْبِرُونَ " ) وَقَالَ تَعَالَى : " إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبهمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّة فَأَنْزَلَ اللَّه سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُوله وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلهَا " [ الْفَتْح : 26 ] وَهِيَ ( لَا إِلَه إِلَّا اللَّه مُحَمَّد رَسُول اللَّه ) اِسْتَكْبَرَ عَنْهَا الْمُشْرِكُونَ يَوْم الْحُدَيْبِيَة يَوْم كَاتَبَهُمْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَضِيَّة الْمُدَّة ; ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ الْبَيْهَقِيّ , وَاَلَّذِي قَبْله الْقُشَيْرِيّ .
{36} وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ
أَيْ لِقَوْلِ شَاعِر مَجْنُون ; فَرَدَّ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ :
{37} بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ
يَعْنِي الْقُرْآن وَالتَّوْحِيد
{37} بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ
فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ التَّوْحِيد .
{38} إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ
الْأَصْل لَذَائِقُونَ فَحُذِفَتْ النُّون اِسْتِخْفَافًا وَخُفِضَتْ لِلْإِضَافَةِ . وَيَجُوز النَّصْب كَمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : فَأَلْفَيْته غَيْرَ مُسْتَقْتِبٍ وَلَا ذَاكِر اللَّه إِلَّا قَلِيلًا وَأَجَازَ سِيبَوَيْهِ " وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةَ " عَلَى هَذَا .
{39} وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
أَيْ إِلَّا بِمَا عَمِلْتُمْ مِنْ الشِّرْك
{40} إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
اِسْتِثْنَاء مِمَّنْ يَذُوق الْعَذَاب . وَقِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة وَالْكُوفَة " الْمُخْلَصِينَ " بِفَتْحِ اللَّام ; يَعْنِي الَّذِينَ أَخْلَصَهُمْ اللَّه لِطَاعَتِهِ وَدِينه وَوِلَايَته . الْبَاقُونَ بِكَسْرِ اللَّام ; أَيْ الَّذِينَ أَخْلَصُوا لِلَّهِ الْعِبَادَة . وَقِيلَ : هُوَ اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع , أَيْ إِنَّكُمْ أَيّهَا الْمُجْرِمُونَ ذَائِقُو الْعَذَاب لَكِنْ عِبَاد اللَّه الْمُخْلَصِينَ لَا يَذُوقُونَ الْعَذَاب .
{41} أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ
يَعْنِي الْمُخْلَصِينَ ; أَيْ لَهُمْ عَطِيَّة مَعْلُومَة لَا تَنْقَطِع . قَالَ قَتَادَة : يَعْنِي الْجَنَّة . وَقَالَ غَيْره : يَعْنِي رِزْق الْجَنَّة . وَقِيلَ : هِيَ الْفَوَاكِه الَّتِي ذُكِرَ قَالَ مُقَاتِل : حِين يَشْتَهُونَهُ . وَقَالَ اِبْن السَّائِب : إِنَّهُ بِمِقْدَارِ الْغَدَاة وَالْعَشِيّ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَلَهُمْ رِزْقهمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا " [ مَرْيَم : 62 ] .
{42} فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ
جَمْع فَاكِهَة ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ " [ الطُّور : 22 ] وَهِيَ الثِّمَار كُلُّهَا رَطْبُهَا وَيَابِسُهَا ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس .
{42} فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ
أَيْ وَلَهُمْ إِكْرَام مِنْ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ بِرَفْعِ الدَّرَجَات وَسَمَاع كَلَامه وَلِقَائِهِ .
{43} فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ
أَيْ فِي بَسَاتِين يَتَنَعَّمُونَ فِيهَا . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْجِنَان سَبْع فِي سُورَة [ يُونُس ] مِنْهَا النَّعِيم .
{44} عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ
قَالَ عِكْرِمَة وَمُجَاهِد : لَا يَنْظُر بَعْضهمْ فِي قَفَا بَعْض تَوَاصُلًا وَتَحَابُبًا . وَقِيلَ : الْأَسِرَّة تَدُور كَيْف شَاءُوا فَلَا يَرَى أَحَد قَفَا أَحَد . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : عَلَى سُرُر مُكَلَّلَة بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوت وَالزَّبَرْجَد ; السَّرِير مَا بَيْن صَنْعَاء إِلَى الْجَابِيَة , وَمَا بَيْن عَدَن إِلَى أَيْلَة . وَقِيلَ : تَدُور بِأَهْلِ الْمَنْزِل الْوَاحِد . وَاَللَّه أَعْلَم .
{45} يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ
لَمَّا ذَكَرَ مَطَاعِمَهُمْ ذَكَرَ شَرَابَهُمْ . وَالْكَأْس عِنْد أَهْل اللُّغَة اِسْم شَامِل لِكُلِّ إِنَاء مَعَ شَرَابه ; فَإِنْ كَانَ فَارِغًا فَلَيْسَ بِكَأْسٍ . قَالَ الضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ : كُلّ كَأْس فِي الْقُرْآن فَهِيَ الْخَمْر , وَالْعَرَب تَقُول لِلْإِنَاءِ إِذَا كَانَ فِيهِ خَمْر كَأْس , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَمْر قَالُوا إِنَاء وَقَدَح . النَّحَّاس : وَحَكَى مَنْ يُوثَق بِهِ مِنْ أَهْل اللُّغَة أَنَّ الْعَرَب تَقُول لِلْقَدَحِ إِذَا كَانَ فِيهِ خَمْر : كَأْس ; فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَمْر فَهُوَ قَدَح ; كَمَا يُقَال لِلْخُوَانِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ طَعَام : مَائِدَة ; فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ طَعَام لَمْ تَقُلْ لَهُ مَائِدَة . قَالَ أَبُو الْحَسَن بْن كَيْسَان : وَمِنْهُ ظَعِينَة لِلْهَوْدَجِ إِذَا كَانَ فِيهِ الْمَرْأَة . وَقَالَ الزَّجَّاج : " بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ " أَيْ مِنْ خَمْر تَجْرِي كَمَا تَجْرِي الْعُيُون عَلَى وَجْه الْأَرْض . وَالْمَعِين : الْمَاء الْجَارِي الظَّاهِر .
{46} بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ
صِفَة لِلْكَأْسِ . وَقِيلَ : لِلْخَمْرِ . قَالَ الْحَسَن : خَمْر الْجَنَّة أَشَدّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَن . وَقِيلَ : " بَيْضَاء " أَيْ لَمْ يَعْتَصِرْهَا الرِّجَال بِأَقْدَامِهِمْ .
{46} بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ
" لَذَّة " قَالَ الزَّجَّاج : أَيْ ذَات لَذَّة فَحُذِفَ الْمُضَاف . وَقِيلَ : هُوَ مَصْدَر جُعِلَ اِسْمًا أَيْ بَيْضَاء لَذِيذَة ; يُقَال شَرَاب لَذّ وَلَذِيذ , مِثْل نَبَات غَضّ وَغَضِيض . فَأَمَّا قَوْل الْقَائِل : وَلَذٍّ كَطَعْمِ الصَّرْخَدِيّ تَرَكْته بِأَرْضِ الْعِدَا مِنْ خَشْيَة الْحَدَثَانِ فَإِنَّهُ يُرِيد النَّوْم .
{47} لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ
أَيْ لَا تَغْتَال عُقُولهمْ , وَلَا يُصِيبهُمْ مِنْهَا مَرَض وَلَا صُدَاع .
{47} لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ
أَيْ لَا تَذْهَب عُقُولهمْ بِشُرْبِهَا ; يُقَال : الْخَمْر غَوْل لِلْحِلْمِ , وَالْحَرْب غَوْل لِلنُّفُوسِ ; أَيْ تَذْهَب بِهَا . وَيُقَال : نُزِفَ الرَّجُل يُنْزَف فَهُوَ مَنْزُوف وَنَزِيف إِذَا سَكِرَ . قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : وَإِذْ هِيَ تَمْشِي كَمَشْيِ النَّزِيـ ـفِ يَصْرَعُهُ بِالْكَثِيبِ الْبَهَرْ وَقَالَ أَيْضًا : نَزِيفٌ إِذَا قَامَتْ لِوَجْهٍ تَمَايَلَتْ تُرَاشِي الْفُؤَادَ الرُّخْصَ أَلَّا تَخَتَّرَا وَقَالَ آخَر : فَلَثَمْت فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِهَا شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الْحَشْرَجِ وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ بِكَسْرِ الزَّاي ; مِنْ أَنْزَفَ الْقَوْمُ إِذَا حَانَ مِنْهُمْ النَّزْف وَهُوَ السُّكْر . يُقَال : أَحْصَدَ الزَّرْع إِذَا حَانَ حَصَاده , وَأَقْطَفَ الْكَرْم إِذَا حَانَ قِطَافُهُ , وَأَرْكَبَ الْمُهْرُ إِذَا حَانَ رُكُوبُهُ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى لَا يُنْفِدُونَ شَرَابَهُمْ ; لِأَنَّهُ دَأْبُهُمْ ; يُقَال : أَنْزَفَ الرَّجُل فَهُوَ مَنْزُوف إِذَا فَنِيَتْ خَمْرُهُ . قَالَ الْحُطَيْئَة : لَعَمْرِي لَئِنْ أَنْزَفْتُمُ أَوْ صَحَوْتُمُ لَبِئْسَ النَّدَامَى كُنْتُمُ آلَ أَبْجَرَا النَّحَّاس : وَالْقِرَاءَة الْأُولَى أَبْيَن وَأَصَحّ فِي الْمَعْنَى ; لِأَنَّ مَعْنَى " يُنْزَفُونَ " عِنْد جِلَّة أَهْل التَّفْسِير مِنْهُمْ مُجَاهِد لَا تَذْهَب عُقُولهمْ ; فَنَفَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ خَمْر الْجَنَّة الْآفَات الَّتِي تَلْحَق فِي الدُّنْيَا مِنْ خَمْرهَا مِنْ الصُّدَاع وَالسُّكْر . وَمَعْنَى " يُنْزَفُونَ " الصَّحِيح فِيهِ أَنَّهُ يُقَال : أَنْزَفَ الرَّجُل إِذَا نَفِدَ شَرَابه , وَهُوَ يَبْعُد أَنْ يُوصَف بِهِ شَرَاب الْجَنَّة ; وَلَكِنَّ مَجَازه أَنْ يَكُون بِمَعْنَى لَا يَنْفَد أَبَدًا . وَقِيلَ : " لَا يُنْزِفُونَ " بِكَسْرِ الزَّاي لَا يَسْكَرُونَ ; ذَكَرَهُ الزَّجَّاج وَأَبُو عَلِيّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ . الْمَهْدَوِيّ : وَلَا يَكُون مَعْنَاهُ يَسْكَرُونَ ; لِأَنَّ قَبْله " لَا فِيهَا غَوْل " . أَيْ لَا تَغْتَال عُقُولهمْ فَيَكُون تَكْرَارًا ; وَيَسُوغ ذَلِكَ فِي [ الْوَاقِعَة ] . وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَعْنَى " لَا فِيهَا غَوْل " لَا يَمْرَضُونَ ; فَيَكُون مَعْنَى " وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزِفُونَ " لَا يَسْكَرُونَ أَوْ لَا يَنْفَد شَرَابهمْ . قَالَ قَتَادَة الْغَوْل وَجَع الْبَطْن . وَكَذَا رَوَى اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد " لَا فِيهَا غَوْل " قَالَ لَا فِيهَا وَجَع بَطْن . الْحَسَن : صُدَاع . وَهُوَ قَوْل اِبْن عَبَّاس : " لَا فِيهَا غَوْل " لَا فِيهَا صُدَاع . وَحَكَى الضَّحَّاك عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : فِي الْخَمْر أَرْبَع خِصَال : السُّكْر وَالصُّدَاع وَالْقَيْء وَالْبَوْل ; فَذَكَرَ اللَّه خَمْر الْجَنَّة فَنَزَّهَهَا عَنْ هَذِهِ الْخِصَال . مُجَاهِد : دَاء . اِبْن كَيْسَان : مَغَص . وَهَذِهِ الْأَقْوَال مُتَقَارِبَة . وَقَالَ الْكَلْبِيّ : " لَا فِيهَا غَوْل " أَيْ إِثْم ; نَظِيره : " لَا لَغْو فِيهَا وَلَا تَأْثِيم " [ الطُّور : 23 ] . وَقَالَ الشَّعْبِيّ وَالسُّدِّيّ وَأَبُو عُبَيْدَة : لَا تَغْتَال عُقُولهمْ فَتَذْهَب بِهَا . وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : وَمَا زَالَتْ الْكَأْسُ تَغْتَالُنَا وَتَذْهَب بِالْأَوَّلِ الْأَوَّلِ أَيْ تَصْرَع وَاحِدًا وَاحِدًا . وَإِنَّمَا صَرَفَ اللَّه تَعَالَى السُّكْر عَنْ أَهْل الْجَنَّة لِئَلَّا يَنْقَطِع الِالْتِذَاذ عَنْهُمْ بِنَعِيمِهِمْ . وَقَالَ أَهْل الْمَعَانِي : الْغَوْل فَسَاد يَلْحَق فِي خَفَاء . يُقَال : اِغْتَالَهُ اِغْتِيَالًا إِذَا أَفْسَدَ عَلَيْهِ أَمْره فِي خُفْيَة . وَمِنْهُ الْغَوْل وَالْغِيلَة : وَهُوَ الْقَتْل خُفْيَة .
{48} وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ
أَيْ نِسَاء قَدْ قَصَرْنَ طَرَفَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فَلَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرهمْ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَمُحَمَّد بْن كَعْب وَغَيْرهمْ . عِكْرِمَة : " قَاصِرَات الطَّرْف " أَيْ مَحْبُوسَات عَلَى أَزْوَاجهنَّ . وَالتَّفْسِير الْأَوَّل أَبْيَنُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَة مَقْصُورَات وَلَكِنْ فِي مَوْضِع آخَر " مَقْصُورَات " يَأْتِي بَيَانه . وَ " قَاصِرَات " مَأْخُوذ مِنْ قَوْلهمْ : قَدْ اِقْتَصَرَ عَلَى كَذَا إِذَا اِقْتَنَعَ بِهِ وَعَدَلَ عَنْ غَيْره ; قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : مِنْ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ مِنْ الذَّرِّ فَوْقَ الْإِتْبِ مِنْهَا لَأَثَّرَا وَيُرْوَى : فَوْق الْخَدّ . وَالْأَوَّل أَبْلَغُ . وَالْإِتْب الْقَمِيص , وَالْمُحْوِل الصَّغِير مِنْ الذَّرّ . وَقَالَ مُجَاهِد أَيْضًا : مَعْنَاهُ لَا يَغِرْنَ .
{48} وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ
عِظَام الْعُيُون الْوَاحِدَة عَيْنَاء ; وَقَالَهُ السُّدِّيّ . مُجَاهِد : " عِين " حِسَان الْعُيُون . الْحَسَن : الشَّدِيدَات بَيَاض الْعَيْن , الشَّدِيدَات سَوَادهَا . وَالْأَوَّل أَشْهَر فِي اللُّغَة . يُقَال : رَجُل أَعْيَنُ وَاسِع الْعَيْنِ بَيِّنُ الْعَيَنِ , وَالْجَمْع عِين . وَأَصْله فُعْل بِالضَّمِّ فَكُسِرَتْ الْعَيْن ; لِئَلَّا تَنْقَلِبَ الْوَاو يَاء . وَمِنْهُ قِيلَ لِبَقَرِ الْوَحْش عِين , وَالثَّوْر أَعْيَن , وَالْبَقَرَة عَيْنَاء .
{49} كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ
أَيْ مَصُون . قَالَ الْحَسَن وَابْن زَيْد : شُبِّهْنَ بِبَيْضِ النَّعَام , تُكِنُّهَا النَّعَامَة بِالرِّيشِ مِنْ الرِّيح وَالْغُبَار , فَلَوْنهَا أَبْيَض فِي صُفْرَة وَهُوَ أَحْسَن أَلْوَان النِّسَاء . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن جُبَيْر وَالسُّدِّيّ : شُبِّهْنَ بِبَطْنِ الْبَيْض قَبْل أَنْ يُقَشَّر وَتَمَسَّهُ الْأَيْدِي . وَقَالَ عَطَاء : شُبِّهْنَ بِالسِّحَاءِ الَّذِي يَكُون بَيْن الْقِشْرَة الْعُلْيَا وَلِبَابِ الْبَيْض . وَسَحَاة كُلّ شَيْء : قِشْره وَالْجَمْع سَحًا ; قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ . وَنَحْوه قَوْل الطَّبَرِيّ , قَالَ : هُوَ الْقِشْر الرَّقِيق , الَّذِي عَلَى الْبَيْضَة بَيْن ذَلِكَ . وَرُوِيَ نَحْوه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْعَرَب تُشَبِّهُ الْمَرْأَة بِالْبَيْضَةِ لِصَفَائِهَا وَبَيَاضهَا ; قَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْس : وَبَيْضَةِ خِدْرٍ لَا يُرَامُ خِبَاؤُهَا تَمَتَّعْت مِنْ لَهْوٍ بِهَا غَيْرَ مُعْجَلِ وَتَقُول الْعَرَب إِذَا وَصَفَتْ الشَّيْء بِالْحُسْنِ وَالنَّظَافَة : كَأَنَّهُ بَيْض النَّعَام الْمُغَطَّى بِالرِّيشِ . وَقِيلَ : الْمَكْنُون الْمَصُون عَنْ الْكَسْر ; أَيْ إِنَّهُنَّ عَذَارَى . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالْبَيْضِ اللُّؤْلُؤ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " وَحُور عِين كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤ الْمَكْنُون " [ الْوَاقِعَة : 22 - 23 ] أَيْ فِي أَصْدَافه ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا . وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر : وَهِيَ بَيْضَاءُ مِثْلُ لُؤْلُؤَةِ اِلْغَ وَّاصِ مِيزَتْ مِنْ جَوْهَرٍ مَكْنُونِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَكْنُون وَالْبَيْض جُمَع ; لِأَنَّهُ رَدَّ النَّعْت إِلَى اللَّفْظ .
{50} فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ
أَيْ يَتَفَاوَضُونَ فِيمَا بَيْنهمْ أَحَادِيثهمْ فِي الدُّنْيَا . وَهُوَ مِنْ تَمَام الْأُنْس فِي الْجَنَّة . وَهُوَ مَعْطُوف عَلَى مَعْنَى " يُطَاف عَلَيْهِمْ " الْمَعْنَى يَشْرَبُونَ فَيَتَحَادَثُونَ عَلَى الشَّرَاب كَعَادَةِ الشُّرَّاب . قَالَ بَعْضهمْ : وَمَا بَقِيَتْ مِنْ اللَّذَّاتِ إِلَّا أَحَادِيثُ الْكِرَامِ عَلَى الْمُدَامِ فَيُقْبِل بَعْضهمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءَلُونَ عَمَّا جَرَى لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا ; إِلَّا أَنَّهُ جِيءَ بِهِ مَاضِيًا عَلَى عَادَة اللَّه تَعَالَى فِي إِخْبَاره .
{51} قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ
أَيْ مِنْ أَهْل الْجَنَّة
{51} قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ
أَيْ صَدِيق مُلَازِم , وَقِيلَ : أَرَادَ بِالْقَرِينِ قَرِينَهُ مِنْ الشَّيْطَان كَانَ يُوَسْوِس إِلَيْهِ بِإِنْكَارِ الْبَعْث .

الصافات

{52} يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ
أَيْ بِالْمَبْعَثِ وَالْجَزَاء . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : قَرِينه شَرِيكه . وَقَدْ مَضَى فِي [ الْكَهْف ] ذِكْرُهُمَا وَقِصَّتُهُمَا وَالِاخْتِلَاف فِي اِسْمَيْهِمَا مُسْتَوْفًى عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ " [ الْكَهْف : 32 ] وَفِيهِمَا أَنْزَلَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ : " قَالَ قَائِل مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِين " إِلَى " مِنْ الْمُحْضَرِينَ " . وَقُرِئَ : " أَإِنَّك لَمِنْ الْمُصَّدِّقِينَ " بِتَشْدِيدِ الصَّاد . رَوَاهُ عَلِيّ بْن كَيْسَة عَنْ سُلَيْم عَنْ حَمْزَة . قَالَ النَّحَّاس : وَلَا يَجُوز " أَإِنَّك لَمِنْ الْمُصَّدِّقِينَ " لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلصَّدَقَةِ هَاهُنَا . وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَفِي قِرَاءَة عَنْ حَمْزَة " أَإِنَّك لَمِنْ الْمُصَّدِّقِينَ " بِتَشْدِيدِ الصَّاد . وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا مِنْ التَّصْدِيق لَا مِنْ التَّصَدُّق . وَالِاعْتِرَاض بَاطِل ; لِأَنَّ الْقِرَاءَة إِذَا ثَبَتَتْ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا مَجَالَ لِلطَّعْنِ فِيهَا . فَالْمَعْنَى " أَإِنَّك لَمِنْ الْمُصَّدِّقِينَ " بِالْمَالِ طَلَبًا فِي ثَوَاب الْآخِرَة .
{53} أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ
أَيْ مَجْزِيُّونَ مُحَاسَبُونَ بَعْد الْمَوْت .
{54} قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ
فَـ " قَالَ " اللَّه تَعَالَى لِأَهْلِ الْجَنَّة : " هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ " . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل الْمُؤْمِن لِإِخْوَانِهِ فِي الْجَنَّة هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إِلَى النَّار لِنَنْظُرَ كَيْف حَال ذَلِكَ الْقَرِين . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل الْمَلَائِكَة . وَلَيْسَ " هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ " بِاسْتِفْهَامٍ , إِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْأَمْر , أَيْ اِطَّلِعُوا ; قَالَهُ اِبْن الْأَعْرَابِيّ وَغَيْره . وَمِنْهُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَة الْخَمْر , قَامَ عُمَر قَائِمًا بَيْن يَدَيْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ رَفَعَ رَأْسه إِلَى السَّمَاء , ثُمَّ قَالَ : يَا رَبّ بَيَانًا أَشْفَى مِنْ هَذَا فِي الْخَمْر . فَنَزَلَتْ : " فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ " [ الْمَائِدَة : 91 ] قَالَ : فَنَادَى عُمَر اِنْتَهَيْنَا يَا رَبَّنَا . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس : " هَلْ أَنْتُمْ مُطْلِعُونَ " بِإِسْكَانِ الطَّاء خَفِيفَة " فَأُطْلِعَ " بِقَطْعِ الْأَلِف مُخَفَّفَة عَلَى مَعْنَى هَلْ أَنْتُمْ مُقْبِلُونَ , فَأَقْبَلَ . قَالَ النَّحَّاس " فَأُطْلِعَ فَرَآهُ " فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا أَنْ يَكُون فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا مَعْنَاهُ فَأُطْلَعَ أَنَا , وَيَكُون مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ جَوَاب الِاسْتِفْهَام . وَالْقَوْل الثَّانِي أَنْ يَكُون فِعْلًا مَاضِيًا وَيَكُون اِطَّلَعَ وَأُطْلِعَ وَاحِدًا . قَالَ الزَّجَّاج : يُقَال طَلَعَ وَأَطْلَعَ وَاطَّلَعَ بِمَعْنًى وَاحِد . وَقَدْ حُكِيَ " هَلْ أَنْتُمْ مُطْلِعُونِ " بِكَسْرِ النُّون وَأَنْكَرَهُ أَبُو حَاتِم وَغَيْره . النَّحَّاس : وَهُوَ لَحْن لَا يَجُوز ; لِأَنَّهُ جَمْع بَيْن النُّون وَالْإِضَافَة , وَلَوْ كَانَ مُضَافًا لَكَانَ هَلْ أَنْتُمْ مُطْلِعِيَّ , وَإِنْ كَانَ سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاء قَدْ حَكَيَا مِثْله , وَأَنْشَدَا : هُمْ الْقَائِلُونَ الْخَيْرَ وَالْآمِرُونَهُ إِذَا مَا خَشَوْا مِنْ مُحْدَثِ الْأَمْرِ مُعْظَمَا وَأَنْشَدَ الْفَرَّاء : وَالْفَاعِلُونَهُ . وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ وَحْدَهُ : وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ وَهَذَا شَاذّ خَارِج عَنْ كَلَام الْعَرَب , وَمَا كَانَ مِثْل هَذَا لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ فِي كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَلَا يَدْخُل فِي الْفَصِيح . وَقَدْ قِيلَ فِي تَوْجِيهه : إِنَّهُ أَجْرَى اِسْم الْفَاعِل مُجْرَى الْمُضَارِع لِقُرْبِهِ مِنْهُ , فَجَرَى " مُطَّلِعُونَ " مَجْرَى يَطْلُعُونَ . ذَكَرَهُ أَبُو الْفَتْح عُثْمَان بْن جِنِّي وَأَنْشَدَ : أَرَأَيْت إِنْ جِئْت بِهِ أُمْلُودَا مُرَجَّلًا وَيَلْبَسُ الْبُرُودَا أَقَائِلُنَّ أَحْضِرُوا الشُّهُودَا فَأَجْرَى أَقَائِلُنَّ مُجْرَى أَتَقُولُنَّ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى : " هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ . فَاطَّلَعَ فَرَآهُ " إِنَّ فِي الْجَنَّة كُوًى يَنْظُر أَهْلُهَا مِنْهَا إِلَى النَّار وَأَهْلِهَا . وَكَذَلِكَ قَالَ كَعْب فِيمَا ذَكَرَ اِبْن الْمُبَارَك , قَالَ : إِنَّ بَيْن الْجَنَّة وَالنَّار كُوًى , فَإِذَا أَرَادَ الْمُؤْمِن أَنْ يَنْظُر إِلَى عَدُوّ كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا اِطَّلَعَ مِنْ بَعْض الْكُوَى .
{55} فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ
أَيْ فِي وَسَط النَّار وَالْحَسَك حَوَالَيْهِ ; قَالَهُ اِبْن مَسْعُود . وَيُقَال : تَعِبْت حَتَّى اِنْقَطَعَ سَوَائِي : أَيْ وَسَطِي . وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَة : قَالَ لِي عِيسَى بْن عُمَر : كُنْت أَكْتُب يَا أَبَا عُبَيْدَة حَتَّى يَنْقَطِع سَوَائِي . وَعَنْ قَتَادَة قَالَ : قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : لَوْلَا أَنَّ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ عَرَّفَهُ إِيَّاهُ لَمَا عَرَفَهُ , لَقَدْ تَغَيَّرَ حَبْرُهُ وَسَبْرُهُ . فَعِنْد ذَلِكَ يَقُول : " تَاللَّهِ إِنْ كِدْت لَتُرْدِينِ "
{56} قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ
" إِنْ " مُخَفَّفَة مِنْ الثَّقِيلَة دَخَلَتْ عَلَى كَادَ كَمَا تَدْخُل عَلَى كَانَ . وَنَحْوه " إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا " [ الْفُرْقَان : 42 ] وَاللَّام هِيَ الْفَارِقَة بَيْنهَا وَبَيْن النَّافِيَة . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : " لَتُرْدِينِ " أَيْ لَتُهْلِكُنِي , وَالرَّدَى الْهَلَاك . وَقَالَ الْمُبَرِّد : لَوْ قِيلَ : " لَتُرْدِينِ " لَتُوقِعُنِي فِي النَّار لَكَانَ جَائِزًا
{57} وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ
أَيْ عِصْمَتُهُ وَتَوْفِيقه بِالِاسْتِمْسَاكِ بِعُرْوَةِ الْإِسْلَام وَالْبَرَاءَة مِنْ الْقَرِين السُّوء . وَمَا بَعْد لَوْلَا مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ عِنْد سِيبَوَيْهِ وَالْخَبَر مَحْذُوف .
{57} وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ
قَالَ الْفَرَّاء : أَيْ لَكُنْت مَعَك فِي النَّار مُحْضَرًا . وَأَحْضَرَ لَا يُسْتَعْمَل مُطْلَقًا إِلَّا فِي الشَّرّ ; قَالَهُ الْمَاوَرْدِيّ .
{58} أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ
وَقُرِئَ " بِمَائِتِينَ " وَالْهَمْزَة فِي " أَفَمَا " لِلِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى فَاء الْعَطْف , وَالْمَعْطُوف مَحْذُوف مَعْنَاهُ أَنَحْنُ مُخَلَّدُونَ مُنَعَّمُونَ فَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ وَلَا مُعَذَّبِينَ .
{59} إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ
يَكُون اِسْتِثْنَاء لَيْسَ مِنْ الْأَوَّل وَيَكُون مَصْدَرًا ; لِأَنَّهُ مَنْعُوت . وَهُوَ مِنْ قَوْل أَهْل الْجَنَّة لِلْمَلَائِكَةِ حِين يُذْبَح الْمَوْت , وَيُقَال : يَا أَهْل الْجَنَّة خُلُود وَلَا مَوْت , وَيَا أَهْل النَّار خُلُود وَلَا مَوْت . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل الْمُؤْمِن عَلَى جِهَة الْحَدِيث بِنِعْمَةِ اللَّه فِي أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ وَلَا يُعَذَّبُونَ ; أَيْ هَذِهِ حَالنَا وَصِفَتنَا . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل الْمُؤْمِن تَوْبِيخًا لِلْكَافِرِ لِمَا كَانَ يُنْكِرهُ مِنْ الْبَعْث , وَأَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا الْمَوْت فِي الدُّنْيَا .
{60} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
قَالَ الْمُؤْمِن مُشِيرًا إِلَى مَا هُوَ فِيهِ ; " إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْز الْعَظِيم " يَكُون " هُوَ " مُبْتَدَأ وَمَا بَعْده خَبَر عَنْهُ وَالْجُمْلَة خَبَر إِنَّ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون " هُوَ " فَاصِلًا .
{61} لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ
يَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ كَلَام الْمُؤْمِن لَمَّا رَأَى مَا أَعَدَّ اللَّه لَهُ فِي الْجَنَّة وَمَا أَعْطَاهُ قَالَ : " لِمِثْلِ هَذَا " الْعَطَاء وَالْفَضْل " فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ " نَظِير مَا قَالَ لَهُ الْكَافِر : " أَنَا أَكْثَر مِنْك مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا " [ الْكَهْف : 34 ] . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ قَوْل الْمَلَائِكَة . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِأَهْلِ الدُّنْيَا ; أَيْ قَدْ سَمِعْتُمْ مَا فِي الْجَنَّة مِنْ الْخَيْرَات وَالْجَزَاء , وَ " لِمِثْلِ هَذَا " الْجَزَاء " فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ " . النَّحَّاس : وَتَقْدِير الْكَلَام - وَاَللَّه أَعْلَم - فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ لِمِثْلِ هَذَا . فَإِنْ قَالَ قَائِل : الْفَاء فِي الْعَرَبِيَّة تَدُلّ عَلَى أَنَّ الثَّانِي بَعْد الْأَوَّل , فَكَيْف صَارَ مَا بَعْدهَا يُنْوَى بِهِ التَّقْدِيم ؟ فَالْجَوَاب أَنَّ التَّقْدِيم كَمِثْلِ التَّأْخِير ; لِأَنَّ حَقّ حُرُوف الْخَفْض وَمَا بَعْدهَا أَنْ تَكُون مُتَأَخِّرَة .
{62} أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ
" أَذَلِك خَيْر " مُبْتَدَأ وَخَبَر , وَهُوَ مِنْ قَوْل اللَّه جَلَّ وَعَزَّ . " نُزُلًا " عَلَى الْبَيَان ; وَالْمَعْنَى أَنَعِيم الْجَنَّة خَيْر نُزُلًا . " أَمْ شَجَرَة الزَّقُّوم " خَيْر نُزُلًا . وَالنُّزُل فِي اللُّغَة الرِّزْق الَّذِي لَهُ سَعَة - النَّحَّاس - وَكَذَا النُّزُل إِلَّا أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَكُون النُّزْل بِإِسْكَانِ الزَّاي لُغَة , وَيَجُوز أَنْ يَكُون أَصْله النُّزُل ; وَمِنْهُ أُقِيم لِلْقَوْمِ نُزُلهمْ , وَاشْتِقَاقه أَنَّهُ الْغِذَاء الَّذِي يَصْلُح أَنْ يَنْزِلُوا مَعَهُ وَيُقِيمُوا فِيهِ . وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي آخِر سُورَة [ آل عِمْرَان ] وَشَجَرَة الزَّقُّوم مُشْتَقَّة مِنْ التَّزَقُّم وَهُوَ الْبَلْع عَلَى جَهْد لِكَرَاهَتِهَا وَنَتْنِهَا . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : وَهِيَ فِي الْبَاب السَّادِس , وَأَنَّهَا تَحْيَا بِلَهَبِ النَّار كَمَا تَحْيَا الشَّجَرَة بِبَرْدِ الْمَاء ; فَلَا بُدَّ لِأَهْلِ النَّار مِنْ أَنْ يَنْحَدِر إِلَيْهَا مَنْ كَانَ فَوْقهَا فَيَأْكُلُونَ مِنْهَا , وَكَذَلِكَ يَصْعَد إِلَيْهَا مَنْ كَانَ أَسْفَل . وَاخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ هِيَ مِنْ شَجَر الدُّنْيَا الَّتِي تَعْرِفهَا الْعَرَب أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا مَعْرُوفَة مِنْ شَجَر الدُّنْيَا . وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اِخْتَلَفُوا فِيهَا ; فَقَالَ قُطْرُب : إِنَّهَا شَجَرَة مُرَّة تَكُون بِتِهَامَةَ مِنْ أَخْبَث الشَّجَر . وَقَالَ غَيْره : بَلْ هُوَ كُلّ نَبَات قَاتِل . الْقَوْل الثَّانِي : إِنَّهَا لَا تُعْرَف فِي شَجَر الدُّنْيَا . فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي شَجَرَة الزَّقُّوم قَالَتْ كُفَّار قُرَيْش : مَا نَعْرِف هَذِهِ الشَّجَرَة . فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَجُل مِنْ إِفْرِيقِيَّة فَسَأَلُوهُ فَقَالَ : هُوَ عِنْدنَا الزُّبْد وَالتَّمْر . فَقَالَ اِبْن الزِّبَعْرَى : أَكْثَرَ اللَّه فِي بُيُوتنَا الزَّقُّوم فَقَالَ أَبُو جَهْل لِجَارِيَتِهِ : زَقِّمِينَا ; فَأَتَتْهُ بِزُبْدٍ وَتَمْر . ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : تَزَقَّمُوا ; هَذَا الَّذِي يُخَوِّفنَا بِهِ مُحَمَّد ; يَزْعُم أَنَّ النَّار تُنْبِتُ الشَّجَر , وَالنَّار تُحْرِق الشَّجَر .
{63} إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ
أَيْ الْمُشْرِكِينَ , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا : كَيْف تَكُون فِي النَّار شَجَرَة وَهِيَ تُحْرِق الشَّجَر ؟ وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي [ سُبْحَان ] وَاسْتِخْفَافهمْ فِي هَذَا كَقَوْلِهِمْ فِي قَوْله تَعَالَى : " عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ " [ الْمُدَّثِّر : 30 ] . مَا الَّذِي يُخَصِّصُ هَذَا الْعَدَد ؟ حَتَّى قَالَ بَعْضهمْ : أَنَا أَكْفِيكُمْ مِنْهُمْ كَذَا فَاكْفُونِي الْبَاقِينَ . فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَة لِلَّذِينَ كَفَرُوا " [ الْمُدَّثِّر : 31 ] وَالْفِتْنَة الِاخْتِبَار , وَكَانَ هَذَا الْقَوْل مِنْهُمْ جَهْلًا ; إِذْ لَا يَسْتَحِيل فِي الْعَقْل أَنْ يَخْلُق اللَّه فِي النَّار شَجَرًا مِنْ جِنْسهَا لَا تَأْكُلهُ النَّار , كَمَا يَخْلُق اللَّه فِيهَا الْأَغْلَال وَالْقُيُود وَالْحَيَّات وَالْعَقَارِب وَخَزَنَة النَّار . وَقِيلَ : هَذَا الِاسْتِبْعَاد الَّذِي وَقَعَ لِلْكُفَّارِ هُوَ الَّذِي وَقَعَ الْآن لِلْمُلْحِدَةِ , حَتَّى حَمَلُوا الْجَنَّة وَالنَّار عَلَى نَعِيم أَوْ عِقَاب تَتَخَلَّلهُ الْأَرْوَاح , وَحَمَلُوا وَزْن الْأَعْمَال وَالصِّرَاط وَاللَّوْح وَالْقَلَم عَلَى مَعَان زَوَّرُوهَا فِي أَنْفُسهمْ , دُون مَا فَهِمَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مَوَارِد الشَّرْع , وَإِذَا وَرَدَ خَبَر الصَّادِق بِشَيْءٍ مَوْهُوم فِي الْعَقْل , فَالْوَاجِب تَصْدِيقه وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُون لَهُ تَأْوِيل , ثُمَّ التَّأْوِيل فِي مَوْضِع إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ تَأْوِيل بَاطِل لَا يَجُوز , وَالْمُسْلِمُونَ مُجْمِعُونَ عَلَى الْأَخْذ بِهَذِهِ الْأَشْيَاء مِنْ غَيْر مَصِير إِلَى عِلْم الْبَاطِن . وَقِيلَ إِنَّهَا فِتْنَة أَيْ عُقُوبَة لِلظَّالِمِينَ ; كَمَا قَالَ : " ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ " [ الذَّارِيَات : 14 ] .
{64} إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ
أَيْ قَعْر النَّار وَمِنْهَا مَنْشَؤُهَا ثُمَّ هِيَ مُتَفَرِّعَة فِي جَهَنَّم .
{65} طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ
أَيْ ثَمَرهَا ; سُمِّيَ طَلْعًا لِطُلُوعِهِ .
{65} طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ
قِيلَ : يَعْنِي الشَّيَاطِين بِأَعْيَانِهِمْ شَبَّهَهَا بِرُءُوسِهِمْ لِقُبْحِهِمْ , وَرُءُوس الشَّيَاطِين مُتَصَوَّر فِي النُّفُوس وَإِنْ كَانَ غَيْر مَرْئِيٍّ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلهمْ لِكُلِّ قَبِيح هُوَ كَصُورَةِ الشَّيْطَان , وَلِكُلِّ صُورَة حَسَنَة هِيَ كَصُورَةِ مَلَك . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ صَوَاحِب يُوسُف : " مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَك كَرِيم " [ يُوسُف : 31 ] وَهَذَا تَشْبِيهٌ تَخْيِيلِيّ ; رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْقُرَظِيّ . وَمِنْهُ قَوْل اِمْرِئِ الْقَيْس : وَمَسْنُونَةٍ زُرْقٍ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ وَإِنْ كَانَتْ الْغُول لَا تُعْرَف ; وَلَكِنْ لِمَا تُصُوِّرَ مِنْ قُبْحهَا فِي النُّفُوس . وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " شَيَاطِين الْإِنْس وَالْجِنّ " [ الْأَنْعَام : 112 ] فَمَرَدَة الْإِنْس شَيَاطِين مَرْئِيَّةٌ . وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح ( وَلَكَأَنَّ نَخْلهَا رُءُوس الشَّيَاطِين ) وَقَدْ اِدَّعَى كَثِير مِنْ الْعَرَب رُؤْيَة الشَّيَاطِين وَالْغِيلَان . وَقَالَ الزَّجَّاج وَالْفَرَّاء : الشَّيَاطِين حَيَّات لَهَا رُءُوس وَأَعْرَاف , وَهِيَ مِنْ أَقْبَح الْحَيَّات وَأَخْبَثهَا وَأَخَفِّهَا جِسْمًا . قَالَ الرَّاجِز وَقَدْ شَبَّهَ الْمَرْأَة بِحَيَّةٍ لَهَا عُرْف : عَنْجَرِدٌ تَحْلِفُ حِينَ أَحْلِفُ كَمِثْلِ شَيْطَانِ الْحِمَاطِ أَعْرَفُ الْوَاحِدَة حَمَاطَة . وَالْأَعْرَف الَّذِي لَهُ عُرْف . وَقَالَ الشَّاعِر يَصِف نَاقَتَهُ : تُلَاعِبُ مَثْنَى حَضْرَمِيٍّ كَأَنَّهُ تَعَمُّجُ شَيْطَانٍ بِذِي خِرْوَعٍ قَفْرِ التَّعَمُّج : الِاعْوِجَاج فِي السَّيْر . وَسَهْم عَمُوجٌ : يَتَلَوَّى فِي ذَهَابه . وَتَعَمَّجَتْ الْحَيَّة : إِذَا تَلَوَّتْ فِي سَيْرهَا . وَقَالَ يَصِف زِمَام النَّاقَة : تُلَاعِب مَثْنَى حَضْرَمِيٍّ كَأَنَّهُ تَعَمُّجُ شَيْطَانٍ بِذِي خِرْوَعٍ قَفْر وَقِيلَ : إِنَّمَا شُبِّهَ ذَلِكَ بِنَبْتٍ قَبِيح فِي الْيَمَن يُقَال لَهُ الْأَسْتَن وَالشَّيْطَان . قَالَ النَّحَّاس : وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا عِنْد الْعَرَب . الزَّمَخْشَرِيّ : هُوَ شَجَر خَشِن مُنْتِن مُرّ مُنْكَر الصُّورَة يُسَمَّى ثَمَره رُءُوس الشَّيَاطِين . النَّحَّاس : وَقِيلَ : الشَّيَاطِين ضَرْب مِنْ الْحَيَّات قِبَاح .
{66} فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ
فَهَذَا طَعَامهمْ وَفَاكِهَتُهُمْ بَدَلَ رِزْق أَهْل الْجَنَّة . وَقَالَ فِي [ الْغَاشِيَة ] : " لَيْسَ لَهُمْ طَعَام إِلَّا مِنْ ضَرِيع " [ الْغَاشِيَة : 6 ] وَسَيَأْتِي .
{67} ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ
أَيْ بَعْد الْأَكْل مِنْ الشَّجَرَة
{67} ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ
الشَّوْب الْخَلْط , وَالشَّوْب وَالشُّوب لُغَتَانِ كَالْفَقْرِ وَالْفُقْر وَالْفَتْح أَشْهَر . قَالَ الْفَرَّاء : شَابَ طَعَامه وَشَرَابه إِذَا خَلَطَهُمَا بِشَيْءٍ يَشُوبُهُمَا شَوْبًا وَشِيَابَة . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُشَاب لَهُمْ . وَالْحَمِيم : الْمَاء الْحَارّ لِيَكُونَ أَشْنَع ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ " [ مُحَمَّد : 15 ] . السُّدِّيّ : يُشَاب لَهُمْ الْحَمِيم بِغَسَّاق أَعْيُنِهِمْ وَصَدِيدٍ مِنْ قَيْحهمْ وَدِمَائِهِمْ . وَقِيلَ : يُمْزَج لَهُمْ الزَّقُّوم بِالْحَمِيمِ لِيُجْمَع لَهُمْ بَيْن مَرَارَة الزَّقُّوم وَحَرَارَة الْحَمِيم ; تَغْلِيظًا لِعَذَابِهِمْ وَتَجْدِيدًا لِبَلَائِهِمْ .
{68} ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ
قِيلَ : إِنَّ هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا حِين أَكَلُوا الزَّقُّوم فِي عَذَاب غَيْر النَّار ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَيْهَا . وَقَالَ مُقَاتِل : الْحَمِيم خَارِج الْجَحِيم فَهُمْ يُورَدُونَ الْحَمِيم لِشُرْبِهِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى الْجَحِيم ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " هَذِهِ جَهَنَّم الَّتِي يُكَذِّب بِهَا الْمُجْرِمُونَ . يَطُوفُونَ بَيْنهَا وَبَيْن حَمِيم آنٍ " [ الرَّحْمَن : 43 - 44 ] . وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود : " ثُمَّ إِنَّ مُنْقَلَبَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيم " قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : يَجُوز أَنْ تَكُون " ثُمَّ " بِمَعْنَى الْوَاو . الْقُشَيْرِيّ : وَلَعَلَّ الْحَمِيم فِي مَوْضِع مِنْ جَهَنَّم عَلَى طَرَف مِنْهَا .
{69} إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ
أَيْ صَادَفُوهُمْ كَذَلِكَ فَاقْتَدَوْا بِهِمْ .
{70} فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ
أَيْ يُسْرِعُونَ ; عَنْ قَتَادَة . وَقَالَ مُجَاهِد : كَهَيْئَةِ الْهَرْوَلَة . قَالَ الْفَرَّاء : الْإِهْرَاع الْإِسْرَاع بِرَعْدَةٍ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : " يُهْرَعُونَ " يَسْتَحِثُّونَ مَنْ خَلْفَهُمْ . وَنَحْوه قَوْل الْمُبَرِّد . قَالَ : الْمُهْرِع الْمُسْتَحِثّ ; يُقَال : جَاءَ فُلَان يُهْرَعُ إِلَى النَّار إِذَا اِسْتَحَثَّهُ الْبَرْد إِلَيْهَا . وَقِيلَ : يُزْعَجُونَ مِنْ شِدَّة الْإِسْرَاع ; قَالَهُ الْفَضْل . الزَّجَّاج : يُقَال هُرِعَ وَأُهْرِعَ إِذَا اُسْتُحِثَّ وَأُزْعِجَ .
{71} وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ
أَيْ مِنْ الْأُمَم الْمَاضِيَة .
{72} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ
أَيْ رُسُلًا أَنْذَرُوهُمْ الْعَذَاب فَكَفَرُوا .
{73} فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ
أَيْ آخِر أَمْرهمْ .
{74} إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
أَيْ الَّذِينَ اِسْتَخْلَصَهُمْ اللَّه مِنْ الْكُفْر . وَقَدْ تَقَدَّمَ . ثُمَّ قِيلَ : هُوَ اِسْتِثْنَاء مِنْ " الْمُنْذَرِينَ " . وَقِيلَ هُوَ مِنْ قَوْله تَعَالَى : " وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلهمْ أَكْثَر الْأَوَّلِينَ " .
{75} وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ
مِنْ النِّدَاء الَّذِي هُوَ الِاسْتِغَاثَة ; وَدَعَا قِيلَ بِمَسْأَلَةِ هَلَاك قَوْمه فَقَالَ : " رَبّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْض مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا " [ نُوح : 26 ] .
{75} وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ
قَالَ الْكِسَائِيّ : أَيْ " فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ " لَهُ كُنَّا .
{76} وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ
يَعْنِي أَهْل دِينه , وَهُمْ مَنْ آمَنَ مَعَهُ وَكَانُوا ثَمَانِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
{76} وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ
وَهُوَ الْغَرَق .

الصافات

{52} يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ
أَيْ بِالْمَبْعَثِ وَالْجَزَاء . وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : قَرِينه شَرِيكه . وَقَدْ مَضَى فِي [ الْكَهْف ] ذِكْرُهُمَا وَقِصَّتُهُمَا وَالِاخْتِلَاف فِي اِسْمَيْهِمَا مُسْتَوْفًى عِنْد قَوْله تَعَالَى : " وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ " [ الْكَهْف : 32 ] وَفِيهِمَا أَنْزَلَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ : " قَالَ قَائِل مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِين " إِلَى " مِنْ الْمُحْضَرِينَ " . وَقُرِئَ : " أَإِنَّك لَمِنْ الْمُصَّدِّقِينَ " بِتَشْدِيدِ الصَّاد . رَوَاهُ عَلِيّ بْن كَيْسَة عَنْ سُلَيْم عَنْ حَمْزَة . قَالَ النَّحَّاس : وَلَا يَجُوز " أَإِنَّك لَمِنْ الْمُصَّدِّقِينَ " لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلصَّدَقَةِ هَاهُنَا . وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَفِي قِرَاءَة عَنْ حَمْزَة " أَإِنَّك لَمِنْ الْمُصَّدِّقِينَ " بِتَشْدِيدِ الصَّاد . وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا مِنْ التَّصْدِيق لَا مِنْ التَّصَدُّق . وَالِاعْتِرَاض بَاطِل ; لِأَنَّ الْقِرَاءَة إِذَا ثَبَتَتْ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا مَجَالَ لِلطَّعْنِ فِيهَا . فَالْمَعْنَى " أَإِنَّك لَمِنْ الْمُصَّدِّقِينَ " بِالْمَالِ طَلَبًا فِي ثَوَاب الْآخِرَة .
{53} أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ
أَيْ مَجْزِيُّونَ مُحَاسَبُونَ بَعْد الْمَوْت .
{54} قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ
فَـ " قَالَ " اللَّه تَعَالَى لِأَهْلِ الْجَنَّة : " هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ " . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل الْمُؤْمِن لِإِخْوَانِهِ فِي الْجَنَّة هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إِلَى النَّار لِنَنْظُرَ كَيْف حَال ذَلِكَ الْقَرِين . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل الْمَلَائِكَة . وَلَيْسَ " هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ " بِاسْتِفْهَامٍ , إِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْأَمْر , أَيْ اِطَّلِعُوا ; قَالَهُ اِبْن الْأَعْرَابِيّ وَغَيْره . وَمِنْهُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَة الْخَمْر , قَامَ عُمَر قَائِمًا بَيْن يَدَيْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , ثُمَّ رَفَعَ رَأْسه إِلَى السَّمَاء , ثُمَّ قَالَ : يَا رَبّ بَيَانًا أَشْفَى مِنْ هَذَا فِي الْخَمْر . فَنَزَلَتْ : " فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ " [ الْمَائِدَة : 91 ] قَالَ : فَنَادَى عُمَر اِنْتَهَيْنَا يَا رَبَّنَا . وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس : " هَلْ أَنْتُمْ مُطْلِعُونَ " بِإِسْكَانِ الطَّاء خَفِيفَة " فَأُطْلِعَ " بِقَطْعِ الْأَلِف مُخَفَّفَة عَلَى مَعْنَى هَلْ أَنْتُمْ مُقْبِلُونَ , فَأَقْبَلَ . قَالَ النَّحَّاس " فَأُطْلِعَ فَرَآهُ " فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا أَنْ يَكُون فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا مَعْنَاهُ فَأُطْلَعَ أَنَا , وَيَكُون مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ جَوَاب الِاسْتِفْهَام . وَالْقَوْل الثَّانِي أَنْ يَكُون فِعْلًا مَاضِيًا وَيَكُون اِطَّلَعَ وَأُطْلِعَ وَاحِدًا . قَالَ الزَّجَّاج : يُقَال طَلَعَ وَأَطْلَعَ وَاطَّلَعَ بِمَعْنًى وَاحِد . وَقَدْ حُكِيَ " هَلْ أَنْتُمْ مُطْلِعُونِ " بِكَسْرِ النُّون وَأَنْكَرَهُ أَبُو حَاتِم وَغَيْره . النَّحَّاس : وَهُوَ لَحْن لَا يَجُوز ; لِأَنَّهُ جَمْع بَيْن النُّون وَالْإِضَافَة , وَلَوْ كَانَ مُضَافًا لَكَانَ هَلْ أَنْتُمْ مُطْلِعِيَّ , وَإِنْ كَانَ سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاء قَدْ حَكَيَا مِثْله , وَأَنْشَدَا : هُمْ الْقَائِلُونَ الْخَيْرَ وَالْآمِرُونَهُ إِذَا مَا خَشَوْا مِنْ مُحْدَثِ الْأَمْرِ مُعْظَمَا وَأَنْشَدَ الْفَرَّاء : وَالْفَاعِلُونَهُ . وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ وَحْدَهُ : وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ وَهَذَا شَاذّ خَارِج عَنْ كَلَام الْعَرَب , وَمَا كَانَ مِثْل هَذَا لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ فِي كِتَاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ , وَلَا يَدْخُل فِي الْفَصِيح . وَقَدْ قِيلَ فِي تَوْجِيهه : إِنَّهُ أَجْرَى اِسْم الْفَاعِل مُجْرَى الْمُضَارِع لِقُرْبِهِ مِنْهُ , فَجَرَى " مُطَّلِعُونَ " مَجْرَى يَطْلُعُونَ . ذَكَرَهُ أَبُو الْفَتْح عُثْمَان بْن جِنِّي وَأَنْشَدَ : أَرَأَيْت إِنْ جِئْت بِهِ أُمْلُودَا مُرَجَّلًا وَيَلْبَسُ الْبُرُودَا أَقَائِلُنَّ أَحْضِرُوا الشُّهُودَا فَأَجْرَى أَقَائِلُنَّ مُجْرَى أَتَقُولُنَّ . وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى : " هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ . فَاطَّلَعَ فَرَآهُ " إِنَّ فِي الْجَنَّة كُوًى يَنْظُر أَهْلُهَا مِنْهَا إِلَى النَّار وَأَهْلِهَا . وَكَذَلِكَ قَالَ كَعْب فِيمَا ذَكَرَ اِبْن الْمُبَارَك , قَالَ : إِنَّ بَيْن الْجَنَّة وَالنَّار كُوًى , فَإِذَا أَرَادَ الْمُؤْمِن أَنْ يَنْظُر إِلَى عَدُوّ كَانَ لَهُ فِي الدُّنْيَا اِطَّلَعَ مِنْ بَعْض الْكُوَى .
{55} فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ
أَيْ فِي وَسَط النَّار وَالْحَسَك حَوَالَيْهِ ; قَالَهُ اِبْن مَسْعُود . وَيُقَال : تَعِبْت حَتَّى اِنْقَطَعَ سَوَائِي : أَيْ وَسَطِي . وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَة : قَالَ لِي عِيسَى بْن عُمَر : كُنْت أَكْتُب يَا أَبَا عُبَيْدَة حَتَّى يَنْقَطِع سَوَائِي . وَعَنْ قَتَادَة قَالَ : قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء : لَوْلَا أَنَّ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ عَرَّفَهُ إِيَّاهُ لَمَا عَرَفَهُ , لَقَدْ تَغَيَّرَ حَبْرُهُ وَسَبْرُهُ . فَعِنْد ذَلِكَ يَقُول : " تَاللَّهِ إِنْ كِدْت لَتُرْدِينِ "
{56} قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ
" إِنْ " مُخَفَّفَة مِنْ الثَّقِيلَة دَخَلَتْ عَلَى كَادَ كَمَا تَدْخُل عَلَى كَانَ . وَنَحْوه " إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا " [ الْفُرْقَان : 42 ] وَاللَّام هِيَ الْفَارِقَة بَيْنهَا وَبَيْن النَّافِيَة . وَقَالَ الْكِسَائِيّ : " لَتُرْدِينِ " أَيْ لَتُهْلِكُنِي , وَالرَّدَى الْهَلَاك . وَقَالَ الْمُبَرِّد : لَوْ قِيلَ : " لَتُرْدِينِ " لَتُوقِعُنِي فِي النَّار لَكَانَ جَائِزًا
{57} وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ
أَيْ عِصْمَتُهُ وَتَوْفِيقه بِالِاسْتِمْسَاكِ بِعُرْوَةِ الْإِسْلَام وَالْبَرَاءَة مِنْ الْقَرِين السُّوء . وَمَا بَعْد لَوْلَا مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ عِنْد سِيبَوَيْهِ وَالْخَبَر مَحْذُوف .
{57} وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ
قَالَ الْفَرَّاء : أَيْ لَكُنْت مَعَك فِي النَّار مُحْضَرًا . وَأَحْضَرَ لَا يُسْتَعْمَل مُطْلَقًا إِلَّا فِي الشَّرّ ; قَالَهُ الْمَاوَرْدِيّ .
{58} أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ
وَقُرِئَ " بِمَائِتِينَ " وَالْهَمْزَة فِي " أَفَمَا " لِلِاسْتِفْهَامِ دَخَلَتْ عَلَى فَاء الْعَطْف , وَالْمَعْطُوف مَحْذُوف مَعْنَاهُ أَنَحْنُ مُخَلَّدُونَ مُنَعَّمُونَ فَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ وَلَا مُعَذَّبِينَ .
{59} إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ
يَكُون اِسْتِثْنَاء لَيْسَ مِنْ الْأَوَّل وَيَكُون مَصْدَرًا ; لِأَنَّهُ مَنْعُوت . وَهُوَ مِنْ قَوْل أَهْل الْجَنَّة لِلْمَلَائِكَةِ حِين يُذْبَح الْمَوْت , وَيُقَال : يَا أَهْل الْجَنَّة خُلُود وَلَا مَوْت , وَيَا أَهْل النَّار خُلُود وَلَا مَوْت . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل الْمُؤْمِن عَلَى جِهَة الْحَدِيث بِنِعْمَةِ اللَّه فِي أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ وَلَا يُعَذَّبُونَ ; أَيْ هَذِهِ حَالنَا وَصِفَتنَا . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل الْمُؤْمِن تَوْبِيخًا لِلْكَافِرِ لِمَا كَانَ يُنْكِرهُ مِنْ الْبَعْث , وَأَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا الْمَوْت فِي الدُّنْيَا .
{60} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
قَالَ الْمُؤْمِن مُشِيرًا إِلَى مَا هُوَ فِيهِ ; " إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْز الْعَظِيم " يَكُون " هُوَ " مُبْتَدَأ وَمَا بَعْده خَبَر عَنْهُ وَالْجُمْلَة خَبَر إِنَّ . وَيَجُوز أَنْ يَكُون " هُوَ " فَاصِلًا .
{61} لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ
يَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ كَلَام الْمُؤْمِن لَمَّا رَأَى مَا أَعَدَّ اللَّه لَهُ فِي الْجَنَّة وَمَا أَعْطَاهُ قَالَ : " لِمِثْلِ هَذَا " الْعَطَاء وَالْفَضْل " فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ " نَظِير مَا قَالَ لَهُ الْكَافِر : " أَنَا أَكْثَر مِنْك مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا " [ الْكَهْف : 34 ] . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ قَوْل الْمَلَائِكَة . وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِأَهْلِ الدُّنْيَا ; أَيْ قَدْ سَمِعْتُمْ مَا فِي الْجَنَّة مِنْ الْخَيْرَات وَالْجَزَاء , وَ " لِمِثْلِ هَذَا " الْجَزَاء " فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ " . النَّحَّاس : وَتَقْدِير الْكَلَام - وَاَللَّه أَعْلَم - فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ لِمِثْلِ هَذَا . فَإِنْ قَالَ قَائِل : الْفَاء فِي الْعَرَبِيَّة تَدُلّ عَلَى أَنَّ الثَّانِي بَعْد الْأَوَّل , فَكَيْف صَارَ مَا بَعْدهَا يُنْوَى بِهِ التَّقْدِيم ؟ فَالْجَوَاب أَنَّ التَّقْدِيم كَمِثْلِ التَّأْخِير ; لِأَنَّ حَقّ حُرُوف الْخَفْض وَمَا بَعْدهَا أَنْ تَكُون مُتَأَخِّرَة .
{62} أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ
" أَذَلِك خَيْر " مُبْتَدَأ وَخَبَر , وَهُوَ مِنْ قَوْل اللَّه جَلَّ وَعَزَّ . " نُزُلًا " عَلَى الْبَيَان ; وَالْمَعْنَى أَنَعِيم الْجَنَّة خَيْر نُزُلًا . " أَمْ شَجَرَة الزَّقُّوم " خَيْر نُزُلًا . وَالنُّزُل فِي اللُّغَة الرِّزْق الَّذِي لَهُ سَعَة - النَّحَّاس - وَكَذَا النُّزُل إِلَّا أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَكُون النُّزْل بِإِسْكَانِ الزَّاي لُغَة , وَيَجُوز أَنْ يَكُون أَصْله النُّزُل ; وَمِنْهُ أُقِيم لِلْقَوْمِ نُزُلهمْ , وَاشْتِقَاقه أَنَّهُ الْغِذَاء الَّذِي يَصْلُح أَنْ يَنْزِلُوا مَعَهُ وَيُقِيمُوا فِيهِ . وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي آخِر سُورَة [ آل عِمْرَان ] وَشَجَرَة الزَّقُّوم مُشْتَقَّة مِنْ التَّزَقُّم وَهُوَ الْبَلْع عَلَى جَهْد لِكَرَاهَتِهَا وَنَتْنِهَا . قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : وَهِيَ فِي الْبَاب السَّادِس , وَأَنَّهَا تَحْيَا بِلَهَبِ النَّار كَمَا تَحْيَا الشَّجَرَة بِبَرْدِ الْمَاء ; فَلَا بُدَّ لِأَهْلِ النَّار مِنْ أَنْ يَنْحَدِر إِلَيْهَا مَنْ كَانَ فَوْقهَا فَيَأْكُلُونَ مِنْهَا , وَكَذَلِكَ يَصْعَد إِلَيْهَا مَنْ كَانَ أَسْفَل . وَاخْتُلِفَ فِيهَا هَلْ هِيَ مِنْ شَجَر الدُّنْيَا الَّتِي تَعْرِفهَا الْعَرَب أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا مَعْرُوفَة مِنْ شَجَر الدُّنْيَا . وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اِخْتَلَفُوا فِيهَا ; فَقَالَ قُطْرُب : إِنَّهَا شَجَرَة مُرَّة تَكُون بِتِهَامَةَ مِنْ أَخْبَث الشَّجَر . وَقَالَ غَيْره : بَلْ هُوَ كُلّ نَبَات قَاتِل . الْقَوْل الثَّانِي : إِنَّهَا لَا تُعْرَف فِي شَجَر الدُّنْيَا . فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي شَجَرَة الزَّقُّوم قَالَتْ كُفَّار قُرَيْش : مَا نَعْرِف هَذِهِ الشَّجَرَة . فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَجُل مِنْ إِفْرِيقِيَّة فَسَأَلُوهُ فَقَالَ : هُوَ عِنْدنَا الزُّبْد وَالتَّمْر . فَقَالَ اِبْن الزِّبَعْرَى : أَكْثَرَ اللَّه فِي بُيُوتنَا الزَّقُّوم فَقَالَ أَبُو جَهْل لِجَارِيَتِهِ : زَقِّمِينَا ; فَأَتَتْهُ بِزُبْدٍ وَتَمْر . ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : تَزَقَّمُوا ; هَذَا الَّذِي يُخَوِّفنَا بِهِ مُحَمَّد ; يَزْعُم أَنَّ النَّار تُنْبِتُ الشَّجَر , وَالنَّار تُحْرِق الشَّجَر .
{63} إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ
أَيْ الْمُشْرِكِينَ , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا : كَيْف تَكُون فِي النَّار شَجَرَة وَهِيَ تُحْرِق الشَّجَر ؟ وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي [ سُبْحَان ] وَاسْتِخْفَافهمْ فِي هَذَا كَقَوْلِهِمْ فِي قَوْله تَعَالَى : " عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ " [ الْمُدَّثِّر : 30 ] . مَا الَّذِي يُخَصِّصُ هَذَا الْعَدَد ؟ حَتَّى قَالَ بَعْضهمْ : أَنَا أَكْفِيكُمْ مِنْهُمْ كَذَا فَاكْفُونِي الْبَاقِينَ . فَقَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَة لِلَّذِينَ كَفَرُوا " [ الْمُدَّثِّر : 31 ] وَالْفِتْنَة الِاخْتِبَار , وَكَانَ هَذَا الْقَوْل مِنْهُمْ جَهْلًا ; إِذْ لَا يَسْتَحِيل فِي الْعَقْل أَنْ يَخْلُق اللَّه فِي النَّار شَجَرًا مِنْ جِنْسهَا لَا تَأْكُلهُ النَّار , كَمَا يَخْلُق اللَّه فِيهَا الْأَغْلَال وَالْقُيُود وَالْحَيَّات وَالْعَقَارِب وَخَزَنَة النَّار . وَقِيلَ : هَذَا الِاسْتِبْعَاد الَّذِي وَقَعَ لِلْكُفَّارِ هُوَ الَّذِي وَقَعَ الْآن لِلْمُلْحِدَةِ , حَتَّى حَمَلُوا الْجَنَّة وَالنَّار عَلَى نَعِيم أَوْ عِقَاب تَتَخَلَّلهُ الْأَرْوَاح , وَحَمَلُوا وَزْن الْأَعْمَال وَالصِّرَاط وَاللَّوْح وَالْقَلَم عَلَى مَعَان زَوَّرُوهَا فِي أَنْفُسهمْ , دُون مَا فَهِمَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مَوَارِد الشَّرْع , وَإِذَا وَرَدَ خَبَر الصَّادِق بِشَيْءٍ مَوْهُوم فِي الْعَقْل , فَالْوَاجِب تَصْدِيقه وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُون لَهُ تَأْوِيل , ثُمَّ التَّأْوِيل فِي مَوْضِع إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ تَأْوِيل بَاطِل لَا يَجُوز , وَالْمُسْلِمُونَ مُجْمِعُونَ عَلَى الْأَخْذ بِهَذِهِ الْأَشْيَاء مِنْ غَيْر مَصِير إِلَى عِلْم الْبَاطِن . وَقِيلَ إِنَّهَا فِتْنَة أَيْ عُقُوبَة لِلظَّالِمِينَ ; كَمَا قَالَ : " ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ " [ الذَّارِيَات : 14 ] .
{64} إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ
أَيْ قَعْر النَّار وَمِنْهَا مَنْشَؤُهَا ثُمَّ هِيَ مُتَفَرِّعَة فِي جَهَنَّم .
{65} طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ
أَيْ ثَمَرهَا ; سُمِّيَ طَلْعًا لِطُلُوعِهِ .
{65} طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ
قِيلَ : يَعْنِي الشَّيَاطِين بِأَعْيَانِهِمْ شَبَّهَهَا بِرُءُوسِهِمْ لِقُبْحِهِمْ , وَرُءُوس الشَّيَاطِين مُتَصَوَّر فِي النُّفُوس وَإِنْ كَانَ غَيْر مَرْئِيٍّ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلهمْ لِكُلِّ قَبِيح هُوَ كَصُورَةِ الشَّيْطَان , وَلِكُلِّ صُورَة حَسَنَة هِيَ كَصُورَةِ مَلَك . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ صَوَاحِب يُوسُف : " مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَك كَرِيم " [ يُوسُف : 31 ] وَهَذَا تَشْبِيهٌ تَخْيِيلِيّ ; رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْقُرَظِيّ . وَمِنْهُ قَوْل اِمْرِئِ الْقَيْس : وَمَسْنُونَةٍ زُرْقٍ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ وَإِنْ كَانَتْ الْغُول لَا تُعْرَف ; وَلَكِنْ لِمَا تُصُوِّرَ مِنْ قُبْحهَا فِي النُّفُوس . وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " شَيَاطِين الْإِنْس وَالْجِنّ " [ الْأَنْعَام : 112 ] فَمَرَدَة الْإِنْس شَيَاطِين مَرْئِيَّةٌ . وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح ( وَلَكَأَنَّ نَخْلهَا رُءُوس الشَّيَاطِين ) وَقَدْ اِدَّعَى كَثِير مِنْ الْعَرَب رُؤْيَة الشَّيَاطِين وَالْغِيلَان . وَقَالَ الزَّجَّاج وَالْفَرَّاء : الشَّيَاطِين حَيَّات لَهَا رُءُوس وَأَعْرَاف , وَهِيَ مِنْ أَقْبَح الْحَيَّات وَأَخْبَثهَا وَأَخَفِّهَا جِسْمًا . قَالَ الرَّاجِز وَقَدْ شَبَّهَ الْمَرْأَة بِحَيَّةٍ لَهَا عُرْف : عَنْجَرِدٌ تَحْلِفُ حِينَ أَحْلِفُ كَمِثْلِ شَيْطَانِ الْحِمَاطِ أَعْرَفُ الْوَاحِدَة حَمَاطَة . وَالْأَعْرَف الَّذِي لَهُ عُرْف . وَقَالَ الشَّاعِر يَصِف نَاقَتَهُ : تُلَاعِبُ مَثْنَى حَضْرَمِيٍّ كَأَنَّهُ تَعَمُّجُ شَيْطَانٍ بِذِي خِرْوَعٍ قَفْرِ التَّعَمُّج : الِاعْوِجَاج فِي السَّيْر . وَسَهْم عَمُوجٌ : يَتَلَوَّى فِي ذَهَابه . وَتَعَمَّجَتْ الْحَيَّة : إِذَا تَلَوَّتْ فِي سَيْرهَا . وَقَالَ يَصِف زِمَام النَّاقَة : تُلَاعِب مَثْنَى حَضْرَمِيٍّ كَأَنَّهُ تَعَمُّجُ شَيْطَانٍ بِذِي خِرْوَعٍ قَفْر وَقِيلَ : إِنَّمَا شُبِّهَ ذَلِكَ بِنَبْتٍ قَبِيح فِي الْيَمَن يُقَال لَهُ الْأَسْتَن وَالشَّيْطَان . قَالَ النَّحَّاس : وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا عِنْد الْعَرَب . الزَّمَخْشَرِيّ : هُوَ شَجَر خَشِن مُنْتِن مُرّ مُنْكَر الصُّورَة يُسَمَّى ثَمَره رُءُوس الشَّيَاطِين . النَّحَّاس : وَقِيلَ : الشَّيَاطِين ضَرْب مِنْ الْحَيَّات قِبَاح .
{66} فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ
فَهَذَا طَعَامهمْ وَفَاكِهَتُهُمْ بَدَلَ رِزْق أَهْل الْجَنَّة . وَقَالَ فِي [ الْغَاشِيَة ] : " لَيْسَ لَهُمْ طَعَام إِلَّا مِنْ ضَرِيع " [ الْغَاشِيَة : 6 ] وَسَيَأْتِي .
{67} ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ
أَيْ بَعْد الْأَكْل مِنْ الشَّجَرَة
{67} ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ
الشَّوْب الْخَلْط , وَالشَّوْب وَالشُّوب لُغَتَانِ كَالْفَقْرِ وَالْفُقْر وَالْفَتْح أَشْهَر . قَالَ الْفَرَّاء : شَابَ طَعَامه وَشَرَابه إِذَا خَلَطَهُمَا بِشَيْءٍ يَشُوبُهُمَا شَوْبًا وَشِيَابَة . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُشَاب لَهُمْ . وَالْحَمِيم : الْمَاء الْحَارّ لِيَكُونَ أَشْنَع ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ " [ مُحَمَّد : 15 ] . السُّدِّيّ : يُشَاب لَهُمْ الْحَمِيم بِغَسَّاق أَعْيُنِهِمْ وَصَدِيدٍ مِنْ قَيْحهمْ وَدِمَائِهِمْ . وَقِيلَ : يُمْزَج لَهُمْ الزَّقُّوم بِالْحَمِيمِ لِيُجْمَع لَهُمْ بَيْن مَرَارَة الزَّقُّوم وَحَرَارَة الْحَمِيم ; تَغْلِيظًا لِعَذَابِهِمْ وَتَجْدِيدًا لِبَلَائِهِمْ .
{68} ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ
قِيلَ : إِنَّ هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا حِين أَكَلُوا الزَّقُّوم فِي عَذَاب غَيْر النَّار ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَيْهَا . وَقَالَ مُقَاتِل : الْحَمِيم خَارِج الْجَحِيم فَهُمْ يُورَدُونَ الْحَمِيم لِشُرْبِهِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى الْجَحِيم ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " هَذِهِ جَهَنَّم الَّتِي يُكَذِّب بِهَا الْمُجْرِمُونَ . يَطُوفُونَ بَيْنهَا وَبَيْن حَمِيم آنٍ " [ الرَّحْمَن : 43 - 44 ] . وَقَرَأَ اِبْن مَسْعُود : " ثُمَّ إِنَّ مُنْقَلَبَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيم " قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : يَجُوز أَنْ تَكُون " ثُمَّ " بِمَعْنَى الْوَاو . الْقُشَيْرِيّ : وَلَعَلَّ الْحَمِيم فِي مَوْضِع مِنْ جَهَنَّم عَلَى طَرَف مِنْهَا .
{69} إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ
أَيْ صَادَفُوهُمْ كَذَلِكَ فَاقْتَدَوْا بِهِمْ .
{70} فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ
أَيْ يُسْرِعُونَ ; عَنْ قَتَادَة . وَقَالَ مُجَاهِد : كَهَيْئَةِ الْهَرْوَلَة . قَالَ الْفَرَّاء : الْإِهْرَاع الْإِسْرَاع بِرَعْدَةٍ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : " يُهْرَعُونَ " يَسْتَحِثُّونَ مَنْ خَلْفَهُمْ . وَنَحْوه قَوْل الْمُبَرِّد . قَالَ : الْمُهْرِع الْمُسْتَحِثّ ; يُقَال : جَاءَ فُلَان يُهْرَعُ إِلَى النَّار إِذَا اِسْتَحَثَّهُ الْبَرْد إِلَيْهَا . وَقِيلَ : يُزْعَجُونَ مِنْ شِدَّة الْإِسْرَاع ; قَالَهُ الْفَضْل . الزَّجَّاج : يُقَال هُرِعَ وَأُهْرِعَ إِذَا اُسْتُحِثَّ وَأُزْعِجَ .
{71} وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ
أَيْ مِنْ الْأُمَم الْمَاضِيَة .
{72} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ
أَيْ رُسُلًا أَنْذَرُوهُمْ الْعَذَاب فَكَفَرُوا .
{73} فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ
أَيْ آخِر أَمْرهمْ .
{74} إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ
أَيْ الَّذِينَ اِسْتَخْلَصَهُمْ اللَّه مِنْ الْكُفْر . وَقَدْ تَقَدَّمَ . ثُمَّ قِيلَ : هُوَ اِسْتِثْنَاء مِنْ " الْمُنْذَرِينَ " . وَقِيلَ هُوَ مِنْ قَوْله تَعَالَى : " وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلهمْ أَكْثَر الْأَوَّلِينَ " .
{75} وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ
مِنْ النِّدَاء الَّذِي هُوَ الِاسْتِغَاثَة ; وَدَعَا قِيلَ بِمَسْأَلَةِ هَلَاك قَوْمه فَقَالَ : " رَبّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْض مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا " [ نُوح : 26 ] .
{75} وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ
قَالَ الْكِسَائِيّ : أَيْ " فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ " لَهُ كُنَّا .
{76} وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ
يَعْنِي أَهْل دِينه , وَهُمْ مَنْ آمَنَ مَعَهُ وَكَانُوا ثَمَانِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
{76} وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ
وَهُوَ الْغَرَق .


{77} وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : لَمَّا خَرَجَ نُوح مِنْ السَّفِينَة مَاتَ مَنْ مَعَهُ مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء إِلَّا وَلَدَهُ وَنِسَاءَهُ ; فَذَلِكَ قَوْله : " وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ " . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : كَانَ وَلَد نُوح ثَلَاثَة وَالنَّاس كُلّهمْ مِنْ وَلَد نُوح : فَسَام أَبُو الْعَرَب وَفَارِس وَالرُّوم وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى . وَحَام أَبُو السُّودَان مِنْ الْمَشْرِق إِلَى الْمَغْرِب : السِّنْد وَالْهِنْد وَالنُّوب وَالزِّنْج وَالْحَبَشَة وَالْقِبْط وَالْبَرْبَر وَغَيْرهمْ . وَيَافِث أَبُو الصَّقَالِبَة وَالتُّرْك واللان وَالْخُزْر وَيَأْجُوج وَمَأْجُوج وَمَا هُنَالِكَ . وَقَالَ قَوْم : كَانَ لِغَيْرِ وَلَد نُوح أَيْضًا نَسْل ; بِدَلِيلِ قَوْله : " ذُرِّيَّة مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوح " [ الْإِسْرَاء : 3 ] . وَقَوْله : " قِيلَ يَا نُوح اِهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَات عَلَيْك وَعَلَى أُمَم مِمَّنْ مَعَك وَأُمَم سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَاب أَلِيم " [ هُود : 48 ] فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْآيَة : " وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ " دُون ذُرِّيَّة مَنْ كَفَرَ أَنَّا أَغْرَقْنَا أُولَئِكَ .
{78} وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ
أَيْ تَرَكْنَا عَلَيْهِ ثَنَاء حَسَنًا فِي كُلّ أُمَّة , فَإِنَّهُ مُحَبَّب إِلَى الْجَمِيع ; حَتَّى إِنَّ فِي الْمَجُوس مَنْ يَقُول إِنَّهُ أفريدون . رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ مُجَاهِد وَغَيْره . وَزَعَمَ الْكِسَائِيّ أَنَّ فِيهِ تَقْدِيرَيْنِ : أَحَدهمَا " وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ " يُقَال : " سَلَام عَلَى نُوح " أَيْ تَرَكْنَا عَلَيْهِ هَذَا الثَّنَاء الْحَسَن . وَهَذَا مَذْهَب أَبِي الْعَبَّاس الْمُبَرِّد . أَيْ تَرَكْنَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَة بَاقِيَة ; يَعْنِي يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ تَسْلِيمًا وَيَدْعُونَ لَهُ ; وَهُوَ مِنْ الْكَلَام الْمَحْكِيّ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " سُورَة أَنْزَلْنَاهَا " . [ النُّور : 1 ] . وَالْقَوْل الْآخَر أَنْ يَكُون الْمَعْنَى وَأَبْقَيْنَا عَلَيْهِ .
{79} سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ
أَيْ سَلَامَة لَهُ مِنْ أَنْ يُذْكَر بِسُوءٍ " فِي الْآخِرِينَ " . قَالَ الْكِسَائِيّ : وَفِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود " سَلَامًا " مَنْصُوب بِـ " تَرَكْنَا " أَيْ تَرَكْنَا عَلَيْهِ ثَنَاء حَسَنًا سَلَامًا . وَقِيلَ : " فِي الْآخِرِينَ " أَيْ فِي أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : فِي الْأَنْبِيَاء إِذْ لَمْ يُبْعَثْ بَعْده نَبِيّ إِلَّا أُمِرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ ; قَالَ اللَّه تَعَالَى : " شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّين مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا " [ الشُّورَى : 13 ] . وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : وَبَلَغَنِي أَنَّهُ مَنْ قَالَ حِين يُمْسِي " سَلَام عَلَى نُوح فِي الْعَالَمِينَ " لَمْ تَلْدَغْهُ عَقْرَب . ذَكَرَهُ أَبُو عُمَر فِي التَّمْهِيد . وَفِي الْمُوَطَّأ عَنْ خَوْلَة بِنْت حَكِيم أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَلْيَقُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّات مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ فَإِنَّهُ لَنْ يَضُرَّهُ شَيْء حَتَّى يَرْتَحِلَ ) . وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ قَالَ : مَا نِمْت هَذِهِ اللَّيْلَة ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مِنْ أَيِّ شَيْء ) فَقَالَ : لَدَغَتْنِي عَقْرَب ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَمَا إِنَّك لَوْ قُلْت حِين أَمْسَيْت أَعُوذ بِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّات مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرَّك ) .
{80} إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
أَيْ نُبْقِي عَلَيْهِمْ الثَّنَاء الْحَسَن . وَالْكَاف فِي مَوْضِع نَصْب ; أَيْ جَزَاءً كَذَلِكَ .
{81} إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
هَذَا بَيَان إِحْسَانه .
{82} ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ
أَيْ مَنْ كَفَرَ . وَجَمْعُهُ أُخَرِ . وَالْأَصْل فِيهِ أَنْ يَكُون مَعَهُ " مِنْ " إِلَّا أَنَّهَا حُذِفَتْ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى مَعْرُوف , وَلَا يَكُون آخِرًا إِلَّا وَقَبْله شَيْء مِنْ جِنْسه . " ثُمَّ " لَيْسَ لِلتَّرَاخِي هَاهُنَا بَلْ هُوَ لِتَعْدِيدِ النِّعَم ; كَقَوْلِهِ : " أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ . ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا " [ الْبَلَد : 16 - 17 ] أَيْ ثُمَّ أُخْبِرُكُمْ أَنِّي قَدْ أَغْرَقْت الْآخَرِينَ , وَهُمْ الَّذِينَ تَأَخَّرُوا عَنْ الْإِيمَان .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخر الزوار

Flag Counter